محمد عبد الرحمن يكتب: أغنية الوداع.. رصد فنى لـ إحساس النهاية

كتب أنطون تشيخوف (1860-1904) مسرحيته الشهيرة “أغنية البجعة” قبل أكثر من 130 عاما، وتحديدا في عام 1887م، والتي جاءت كتعبير مجازي يرمز إلى الفعل أو الجهد الأخير قبل الموت أو الرحيل، ويعود هذا التعبير إلى معتقد يوناني قديم مفاده أن البجع يغني قبل لحظات من وفاته بعد التزامه الصمت. طوال حياته، ككائن هامس طوال حياته، يغني أجمل أغانيه عندما يرى الموت.

وتعد أغنية البجعة من أكثر نصوص تشيخوف التي عولجت فنيا سواء مسرحيا أو تلفزيونيا أو سينمائيا، حيث سبق أن قدمتها المخرجة السعودية هناء العمير في فيلم قصير، وقد قدمت مسرحيا بأكثر من معالجة وشكل، وكان آخرها عرض مسرحية “فريدة” للفنانة القديرة عايدة فهمي، والتي عرضت على خشبة المسرح في القاهرة، واستمرت لعدة مواسم، ومن آخر المعالجات التي قدمت على النص كان أداء “أغنية الوداع”. للمخرج طلال قمبر البلوشي ضمن فعاليات مهرجان كلباء للمسرح القصير في دورته الحادية عشرة.

في النص الأصلي الذي كتبه تشيخوف تحت عنوان “أغنية البجعة”، تدور الأحداث حول ممثل يجد نفسه وحيدًا مع الملقن بعد انتهاء العرض المسرحي، ويستذكر رحلته الفنية المزدحمة ويندم على انتهاءها، أو وهكذا يكون النص، ثم الأداء الذي بني عليه، بمثابة أغنية الوداع الأخيرة له، ومع اقترابه من نهايته، يرمز إلى الظهور الأخير لفنان المسرح في عروضه النهائية.

وفي المعالجة التي قدمها المخرج طلال قمبر البلوشي، لم تختلف كثيراً عما ورد في النص الأصلي لتشيخوف، إذ التزم إلى حد كبير بالحبكة الدرامية التي صاغها المؤلف الروسي، لكنه أضاف أبعاداً أخرى تخدم فكرته الدرامية وصورة بصرية لتضفي لمسة جمالية على العرض المسرحي، وجاءت الأحداث حول الممثل المسرحي “فاسيلي” الذي كبر في السن وتسلطت الأضواء عليه. ينسحب من العرض ويبقى وحيداً ويتذكر أيام مجده الفني والأدوار العظيمة التي قدمها على المسرح. يتذكر حرارة تصفيق الجمهور له فيدخل عليه. الملقن “نيكيتا” ليس لديه مكان للإقامة فيه سوى غرفة تبديل الملابس للنوم فيها. ويتسع الحوار بينهما، ويروي الممثل تجربته مع المسرح والنصوص والجمهور على مدى سنوات حياته، وكأنها لم تعد ملكاً له أو كشيء لم يعد ملكاً له.

منذ البداية، اتشابك العرض مع الواقع، ونقده، والتعبير عن ديمومة الحياة وزوالها. وذلك الوهم الشديد الذي يجعلنا نشعر أن تلك الأوقات ستستمر إلى الأبد، لكنها ستنتهي قريبًا… عن فكرة الشيخوخة، والدخول إلى المجهول كلما تسارع الزمن، عن مفهوم الحياة، وكيف نحن يعيش فيها ولا يستطيع دون أن يدركها كما هي. لا بد منه، وهل هو شيء نمر به، أم حالة تصيبنا؟ هل يمر دون أن نحتفظ به كما نحتفظ بملابسنا وأغراضنا القديمة؟

يبدأ العرض بدخول فاسيلي في ظلام دامس، لا يضاء إلا بواسطة مصباح يدوي صغير في يد فاسيلي ينير وجهه، ويتحدث وهو في حالة سكر. يظهر الممثل العجوز فاسيلي في حالة عاطفية عبارة عن مزيج من اليأس والاستياء والعزلة. يشعر أن المجتمع لا يقدر فنه أو يحترمه. ثم ينادي نيكيتا الذي يدخله بملابس النوم، في تعبير أنه يعيش هنا، واعتمد المخرج على صورة أقرب إلى الفيلم، حيث ظهر العرض كواحد لفترة طويلة. مشهد أو لقطة واحدة. “تسديدة طويلة.”

قسم المخرج مساحة المسرح إلى أجزاء خطية، بحيث كان المنتدى كما لو كان أمام خشبتين مسرحيتين، إحداهما يظهر عليها الممثل القديم وهو يحكي مأساته، وفي مقابلها أخرى تظهر فيها بعض المونولوجات. استخدم المخرج أسلوب المونولوج في مراجعة شريط الذكريات وحاول التنويع في الصوت والشخصية من خلال استقدام ممثل آخر أصغر سناً ليقدم البعض. يوليوس قيصر، وأدى أداء شخصيات درامية أخرى، واستحضار شبح حبيبته السابقة، ونجح. ومع هذا التنويع بين الشخصيات في كسر رتابة المونولوج الذاتي، لعب التقسيم الذي وضعه المخرج أيضا مقارنة بصرية تعبر عن الحالة النفسية لأبطال الأداء، بحيث يظهر جانب واحد من الممثل نبرة ضعفه والشعور بالصغر، وجانب آخر يظهر فترة حيويته وطاقته كممثل محبوب لدى الجمهور.

برع الممثل محمد أنور حمزة، في تجسيد دور الممثل المنهك، من خلال مجموعة من عناصر الأداء التي تدل على مهاراته العالية في فن الإلقاء والتشخيص، من خلال إيماءات حركية متنوعة وانحناء ظهر جعله شاحب الوجه. رجل عجوز، واستطاع أن يتنقل بين الشخصيات والأدوار التي يلعبها حسب الموقف الذي يواجهه ويمثله بشكل ينسي المشاهد أنه أمام شخص واحد، وذلك بسبب هذا اللون في تعابير الوجه، ونغمات الصوت، وحركة الجسم.

بشكل عام، قدم المخرج طلال البلوشي معالجة منضبطة للغاية، رغم أنها شابتها بعض النواقص فيما يتعلق باستخدام نقاط الإضاءة واستخدام القاعدة المسرحية، محاولاً الإجابة عن أسئلة حول مفهوم الحياة، والتقلبات التي يعيشها الإنسان. في مراحل حياته المختلفة، مما يقدم صورة أكثر عمقا لمأساة الفنان الذي يفقد بريقه بمجرد أن يكبر، وربما حاول خلق صورة وهو ما يتعارض مع الصورة النمطية التي يحملها البعض عن الفن. وأنه عنصر ترفيهي يجلب المتعة والراحة، وأن مهنة التمثيل تعتبر شيئاً تافهاً وأن الممثل لا يكون إلا بهلواناً مقدماً. صورة تتوافق مع رؤية الفيلسوف آلان دو بوتون بأن الهدف الأساسي للفن هو تعويضنا عن الشعور بالنقص النفسي وإسكات هواجس النقص.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top