قبل ما يقرب من 80 عاما، كتب جورج أورويل روايته الشهيرة “مزرعة الحيوانات”، والتي تصور فيها العالم الجديد الذي ستحكمه قوى عظمى تتقاسم مساحتها وسكانها ولا تلبي أحلامها وطموحاتها، بل تتحول بدلا من ذلك. بأعداد هائلة تخضع لإشراف وثيق من قبل الأخ الأكبر، الذي يمثل الحكم الشمولي. ومن هذا المنطلق يمكن أن نتناول العرض المسرحي “الضيف” للمخرج محمد عبد الله، والمأخوذ من قصة قصيرة لمصطفى محمود بعنوان “أغنية الدم”، ونص مسرحي قصير لإيروين. “ثورة الموتى” الذي عُرض مؤخرًا في دورته الحادية عشرة ضمن برنامج “كورتسبيلفي كلباء”.
- اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني.. كتاب ساندوا القضية
- محمد صابر عرب عقب الفوز بجائزة النيل: حصاد سنوات طويلة
منذ البداية يحاول العرض “العنوان” إشراك المتلقي في الأفكار التي يقدمها المخرج، ولعل اختياره كان بادرة ذكية منه لأنه ابتعد عن اسمي النصين المذكورين اللذين منهما كانت القصة ملهمة، وحاول من خلالها إثارة فضول المتلقي وإثارة تساؤلاته من خلال استدراجه للدخول مباشرة في القصة، فمن هو ذلك الضيف؟ فهل سيكون ضيفا عاديا أم ضيفا ثقيلا، كما عنوان أبو المسرح العربي الكاتب الكبير توفيق الحكيم مسرحيته الأولى “الضيف الثقيل” التي كتبها مستوحاة من الاحتلال البريطاني لمصر، وهي ورمزت إقامته بـ«الغاز الثقيل»، وهي فكرة ربما ليست بعيدة عما جربها عبد الله في عرضه الأخير.
- الشيخ الحصرى.. أول من سجل المصحف المرتل بصوته ورحل فور انتهائه من صلاة العشاء
- اكتشاف منابع نهر النيل.. ما قاله إيميل لودفيج عن أطول نهر في العالم
- أخبار الرياضة المصرية اليوم الأحد 5 - 1 - 2025 - اليوم السابع
يبدأ العرض داخل مقبرة جماعية للجنود الذين ماتوا في الحرب العالمية، حيث نرى جنديًا مشلولًا فقد القدرة على المشي بسبب الحرب، يتحدث مع زملائه الذين فقدهم بسبب تلك المأساة الكبيرة والدموية التي خلفت الملايين من المدنيين والجنود القتلى. تعرض لأزمة نفسية كبيرة جعلته يظهر… لدرجة فقدانه لعقله واقترابه من الجنون، يجده أحد المارة داخل مهرج. زي يشبه، معه حقيبة جيتار، ويرافقه كلب اسمه “تشارلي”، وها هو هنا. وكانت المفارقة أن الأخير ظهر بفستان مهرج، لكن سرعان ما ظهر وجه الشخص الحقيقي الذي جاء لينال منه، ليتأكد أن الجميع هنا يكرر ما يردده، ويتبنى أفكاره. في مشهد يشبه إلى حد كبير معاملة المخرج الكبير كرم مطاوع لمسرحية «الدم» التي قدمها عام 1991 مع عبد الرحمن أبو زهرة ويحيى الفخراني، حيث لعب الأول الدور. حارس مقبرة، بينما كان الفخراني يرمز للمستعمر الذي يحاول فرض سيطرته. وأثرت أفكاره في أصحاب الأرض حتى بدأوا يتبنون وجهة نظره ويحملون أفكاره.
ولعل الفكرة التي أراد محمد عبد الله إيصالها في عرضه كانت أكثر عمقا من المفهوم النمطي لسلطة احتلال تسعى إلى اغتصاب الأرض والقضاء على شعبها، إما بالقتل أو التهجير، كما يفعل الكيان الصهيوني دائما بمحاولة تصفية الأرض. دولة. القضية الفلسطينية، وتوجه جهودها إلى تسويق مفهوم انعزالي للوطنية، مما يجعلها نقيضها أو معاكسها، معارضا للانتماء الوطني، وهو ما يعني تحييد الشعوب العربية عن القضية.
ولعل فكرة السيطرة الاستبدادية المطروحة هنا لا تعني سوى سلطة القيم الأخلاقية الأجنبية التي تتغلغل في بعض المجتمعات، والتي تحمل أفكارا ثقافية ودينية واجتماعية متطرفة تسعى إلى اختطاف أبناء تلك المجتمعات، وخاصة الشباب منها، الفكرية لقيمهم، وتغذيهم بأفكار وقيم لم تكن موجودة من قبل ولعل وسائل الاتصال ومنصاته ساعدت في ظهورها وتفعيلها ونشرها، وهنا يظهر نوع آخر من السلطة التي يستطيع المدير . حاول أن يناقش من خلال عمله ما هي سلطة عالم الشركات الرأسمالية التي نجحت في تحييد وتهميش الإنسانية حتى تجلس وحيدة على عرش الأفكار التي تنظم الحياة والمجتمع، كما يظهر غزو التكنولوجيا باعتبارها مساحة كبيرة تسمح بالحرية، ولكنها في الواقع مصدر محتمل لاختفاء الحرية. فإذا كانت الحالة الملموسة للمستهلك في ذلك العالم الافتراضي هي الاختيار، فإن أيديولوجية الاختيار هي في الواقع واحدة في حد ذاتها – إنها يمكن أن يكون دليلاً على كيف أن المادة تقلل الاختيار فعليًا، وكيف تقتصر الخيارات البشرية على. القيود التي تضعها تلك الشركات أو المنصات الرقمية التي لا تحيد عنها وتقدم قيودًا تبدو وكأنها اختيارات. تجعله عبدا لها.
وكان أداء محمد عبد الله ومحمد هشام، بطلي العرض، معقدا ومربكا في نفس الوقت. كلاهما أتقن الانتقال من شعور وعاطفة إلى أخرى بشكل جيد. إنهما ممثلان مختلفان ذهنيا وشكليا، وله طريقته الخاصة في أداء الدور وتقديم الشخصية، لكن ربما كان العنصر الأكثر إثارة للإعجاب في التمثيل لدى الجمهور هو أمير السعيدي الذي لعب دور “الكلب” مجسدا و تمكن من استخدام جميع أدواته التمثيلية. الوسائل والتقنيات، حيث تمكن من استخدام جسده وإتاحة له حرية الرقص والتعبير، لجذب انتباه المتفرج إليه. ويتمكن من لعب الشخصية المحورية في الأحداث، التي تنتهي بهذا الكلب الذي يسمع كلام صاحبه تمامًا طوال الوقت، ليس سوى تشارلي، صديق الجندي المقعد، الذي يظل يتذمر طوال العرض ويتحدث عن بطولته. ، لتأكيد فكرة نجاح سيطرة الضيف وتغلغله في العقل، والقضاء على موروثات وقيم أصحاب المكان الحقيقيين، لسلبهم إرادتهم وجعلهم يبدون وكأنهم ‘ أداة في أيدي الآخرين.
وفي النهاية، تمكن المخرج محمد عبد الله من تقديم صورة بصرية جيدة في إطار تجريبي، من خلال استخدام شواهد القبور، التي كانت غير مستقرة ومتحركة الألوان. الأبطال الحقيقيون هم الذين يختبئون خلف شواهد القبور، وفي التشكيلات الحوارية تتحرك العبارة لأعلى المرحلة، ونجح في تقديم الصورة. وهي أكثر عمقا من كثير من مفاهيم القوة الشمولية، سواء في جانبها السياسي الاستبدادي أو حتى في جانبها التكنولوجي، من قبل تلك الشركات والمنصات التي لديها أشخاص محدودون ومحدودون. أمامهم مجموعة من الاختيارات التي لا يمكنهم الخروج عنها.