أحمد حسن عوض يكتب: بين أوراق محمود درويش.. مأزق الوجود وقوة الشعر

كان محمود درويش طفلاً متعدد المواهب. كان يحب الرسم، لكن لم يكن هناك مال لشراء الألوان، فكان البديل الشعر، فليرسم بالكلمات. لكن مساحة عالم طفولته، التي كانت مليئة بقوة الطبيعة الفلسطينية وجمالها المتدفق وحيويتها الحالمة، تغيرت فجأة، وانفصل الطفل عن عالمه؛ وجد نفسه بين صفوف الطلاب في لبنان بعد رحلة شاقة للوصول إلى هناك.

كان درويش طفلاً ضعيفاً جسدياً، يدافع عن نفسه بسلطان لسانه ويسعى إلى التفوق الروحي. لأنه لا يملك القدرة على المبارزة على المستوى البدني.

يحكي أنه في أحد الأيام كان عائداً من المدرسة، فأوقفه طفل أكبر منه وأقوى جسدياً واعتدي عليه دون سبب. كما ذكر أنه يتنافس مع فتاة لبنانية في المدرسة، وعندما تفوق عليها لعنته بكلمة “لاجئ”. شعر محمود درويش بما يمكن قوله. كنت مثل فكرة عابرة.

نحيفة مثل نبات الشعير، بلا حب، كنت أماً على مستوى اغتراب الهوية واغتراب الوطن، وهو ما عبر عنه فيما بعد بقوله:

وطني كيس وحقيبتي وطن الغجر
أمة تخيم في الغناء والدخان
الناس يبحثون عن مكان
بين الحطام والمطر

كطفل يتمتع بذكاء حاد ومواهب عديدة، كان عليه أن يحشد طاقته الداخلية وقدراته الخاصة التي طورها جده فيه. وكان يرافقه دائمًا وينخرط في الحياة العامة بعد أن يعلمه القراءة، ويصطحبه إلى مجالس الكبار. ليتفاخر بطفل يستطيع قراءة الجريدة بصوت عالٍ، أعطاه كتبًا وجعله يقرأ قصص جاليفر أوليفر تويست، وكان سيعطيه مجموعة من أعمال شكسبير المبسطة للأطفال إلى المدينة، هل سيحضر له كتاب هدية، وبالإضافة إلى ذلك كان الجد يعلم حفيده أبياتاً من الشعر العربي القديم أو… كان يكتب له أبياتاً على قطعة من الورق ليحفظها، ومن بينها معلقة امرئ القيس الذي أخبر درويش جده أنه يريد أن يكتب هكذا، وكان عمره حينها سبع سنوات.

ونتيجة لذلك، استطاع محمود درويش، الطفل المثقف ذو الخبرة، أن يشارك في أمسياتهم مع الكبار ويستمع إلى قصص ألف ليلة وليلة وغيرها من القصص الشعبية التي نقلته – كما قال في حواره مع نبيل عمر “أ” “رحلة في عالم محمود درويش” – من عالم الطفل إلى عالم التأمل في إمكانية صياغة الأحلام التي يمكن تحقيقها.

كان الاستمرار في القراءة هو عزاءه في مأزق الوجود الذي قاده إلى الضلال. وهذا ما عبر عنه درويش في الحوار المذكور بقوله:

«أذكر أنني وجدت عزائي وتعويضي عن كل هذه التجوال، فقد التهمت الكثير من الكتب في سن مبكرة جدًا، دون أن أفهم ما كنت أقرأه. “القراءة نقلتني إلى عالم آخر، العالم الذي كنت أعيش فيه، وعوضتني عن الخسائر الكبيرة التي حلت بنا”.

وفي الوقت نفسه، أصبح درويش يرى في الشعر درعًا واقيًا وحاضنة عاطفية ثقافية قادرة على طمأنة الشاعر وإمداده بالطاقة اللازمة لمواجهة ضغوط الوجود القلق المهدد بالعدوان الجسدي والمحو الهوية من جهة أخرى. خاصة أنه أدرك مبكراً خطورة تأثير الكلمة وخوف الحاكم العسكري المحتل منها، عندما كان درويش في الثانية عشرة من عمره وشارك في احتفال أقامته مدرسته دير الأسد بقصيدة بعنوان “يا بلادي”. “الأخ العبري” الذي يقارن فيه بؤس حياة طفل عربي بترف حياة طفل يهودي. فجن جنون رئيس البلدة المسؤول عن الاحتفال وقال: هذا الولد جاء ليهدم منزلنا بعد أن دمر منزله ومنزل عائلته. لماذا لا يحترمون الضيافة؟ فاستدعاه الحاكم العسكري، فوبخه وضربه، لكنه لم يبكي أمامه. وعدم القدرة على دفع مصاريف الدراسة الثانوية التي كانت باهظة الثمن، لكن والده شجعه وقال له: الله يرزقنا.

والحقيقة أن القصيدة تسببت في طرد والد درويش من وظيفته، لكنها في الوقت نفسه حذرته من قوة سلاح الشعر وخطورته وقدرته على تمييز العدو المحتل الغاصب والدفاع عن الحق الحق. الوطن:

لقد آمنت بالرسالة، إما ميتة أو غير موجودة
أو أقيم مشنقة لعدوي
آمنت بالحرف نار.. لا يهم إن كنت رماداً
أو كان طاغيتي
فإذا سقط ويكفي أن يرفع العلم كتب الناس على القبر: لم يمت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top