عفاف عبد المعطى تكتب: كلنا عبد ربه التائه

الحضور كيان هذه مقولة الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر التي تتميز بالغموض والغرابة اللغوية، تنص على أن هايدجر يحاول أن يقول شيئا لا تستطيع اللغة العادية أن تفعله، وهو الحديث عن الخصائص الأساسية فينا. موجود كما قال د. يوضح محمد العناني. وتعود هذه الصعوبة إلى تفرد رؤى هايدجر، وأن فلسفته مخفية في مصطلحاته. فإذا تمكنا من فهم المصطلح سنتمكن من فهم فكره، (محمد عناني – معجم المصطلحات الأدبية. مكتبة لونجمان).

وهذا ينطبق على أصداء السيرة الذاتية؛ ولعل الأسس الفلسفية التي خرج منها الكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ هي التي دفعته إلى تأليف كتابه المهم “أصداء السيرة الذاتية” الطبعة الأولى 1995 والطبعة الأشهر 2004 والطبعة الإنجليزية التي صدرت عام 2005 عن الجامعة الأمريكية قسم النشر قدمته الكاتبة الجنوب افريقية نادين جورديمر المؤلفان حاصلان على جائزة نوبل فاز بها محفوظ تباعا عام 1988م و ثم بقلم نادين جورديمر عام 1991.

نجيب محفوظ ونادين جورديمر

بداية العنوان، “أصداء” هي جمع “بيضة”، والجمع في القاموس الوسيط هو “صدى”. أي أن الصوت استجاب بالصدى بعد ارتفاعه، مما يعني مقدار الصوت الذي سيصدره هذا الكتاب، وله فيما يتعلق بالسيرة الذاتية، فهي فن يحكي الإنسان سيرته الأدبية. وهو مصطلح مرن يمكن أن يحتوي على العديد من التناقضات. ولذلك فإن كتاب “أصداء السيرة الذاتية” لا يعتبر كتابا دالا على سيرة محفوظ الأدبية بقدر ما هو صياغة لرؤاه الشخصية والأدبية لما يقرب من قرن من الزمان وعمر طويل، خاصة أنه يأتي من فلسفة عميقة التخصص. الدراسة (حيث تخرج محفوظ عام 1935 من جامعة القاهرة كلية الآداب).

ولا يحتاج قارئ نصوص محفوظ إلى أن يكلف نفسه عناء البحث عن تشبع كتابات محفوظ بالفلسفة، وعلى سبيل المثال لا الحصر آراء بطله عمر الحمزاوي في رواية المتسول “هل يمكن البحث عن معنى الحياة؟” وتحقيق ذلك. فالهدف السامي يجب أن يكون له شخصيات مساعدة، وبهذه الطريقة يمكننا تصنيف جميع الشخصيات في الرواية حسب كوكبة أولى. ارتباطها بالبطل علاقة عاطفية، سواء كانت علاقة صداقة. أو علاقة عائلية. أو المغزى الفلسفي لرأي كمال عبد الجواد في الثلاثية: “أرى الشهوة غريزة كريهة، وأكره فكرة الاستسلام لها، ولعلها لم تخلق فينا إلا لتُلهمنا” إحساسا المقاومة والتسامي حتى نرتقي بجدارة إلى مستوى الإنسانية الحقيقية، إما أن أكون إنساناً أو أكون حيواناً.

نجيب نفسه، في أصداء السيرة الذاتية، ليس أكثر من كاتب متخفي وراء قسمين من الكتاب. القسم الأول رؤيته وملاحظاته لبعض الشخصيات والمواقف، والقسم الثاني وهو الأهم حيث الأقوال. للشيخ عبد ربه الطعيطة ومعنى الاسم لا يحتاج إلى جهد في البحث عن عبد الله ولكنه تائه في عالمه (الدنيا) لا يستطيع بعد فك رموزه ولا يفهم المعنى. غموض وغموض عالمه وواقعه.

غلاف انجليزي

الشيخ عبد ربه الضائع، الذي شغلت الفلسفة الوجودية آراءه، وصف نفسه قائلاً: “الناس مشغولون بالحياة وآخرون مشغولون بالموت، أما أنا فقد استقر مكاني في الوسط”. العبد الضائع تحت الحياة بملذاتها، حيث – بحسب رؤاه – “قدّر للإنسان أن يمشي متأرجحاً بين اللذة والألم” أو يحاول أن يعطي تفسيراً مقنعاً لعجائب الدنيا والخليقة. وهذا ما يؤكده بقوله: “إن أشمل صراع في الوجود هو الصراع بين الحب والموت”، وكأن الشيخ المسرف عبد ربه مثال للفيلسوف الحائر في الحياة. لم يكتف بالواقع المعيشي وتقبله، لكنه استمر في تفسير ما رآه على أنه معانٍ يصعب تصديقها، بما في ذلك وصفه لنفسه عندما سمعه ينادي: “الطفل الضال، أيها الأبناء الشرعيون، “ولما سئل عن وصف الطفل المفقود قال:
لقد فقدته منذ أكثر من سبعين عامًا، واختفت مني كل أوصافه.
سألت الشيخ عبد ربه الطائي: كيف ستنتهي المحنة التي تعيشونها؟
أجاب:
إن خرجنا سالمين فهي الرحمة، وإن خرجنا مدمرين فهي العدالة الكتاب، تحت عنوان “التحدي”، تصوير البراءة المفقودة للعاصين واضح:
وفي خضم جدل سياسي، سأل أحد النواب أحد الوزراء:
هل يمكنك أن تدلني على شخص طاهر وغير دنس؟
أجاب الوزير بغضب:
وإليك أمثلة على سبيل المثال لا الحصر، الأطفال والمعتوهين والمجانين. العالم لا يزال جيدا. (الأصداء ص35)
وفي مقدمة الطبعة الإنجليزية من أصداء السيرة الذاتية، ربطت الكاتبة نادين جورديمر محفوظ بالكاتب الفرنسي مارسيل بروست، وذكر محفوظ على وجه الخصوص تأثيره إلى حد كبير من خلال ملحمة بروست الشهيرة “البحث عن الزمن الضائع”، والتي كانت أيضًا. تصنف على أنها “سيرة ذاتية” عبر فيها بروست عن وجوده في بداية القرن قبل عشرين عاما، منذ طفولته، وهو يبحث عن السعادة المطلقة في رؤية كل شيء من حوله، سواء في الأسرة، أو علاقات الحب، أو في العالم. من حوله، لكنه لا يجده أبدًا لهذا السبب. وقع محفوظ في حيرة وجود الإنسان في هذا العالم المعقد (الذي اخترع من أجله محفوظ شخصية عبد ربه الضائع)، ولذلك سعى بروست إلى السعادة في اللامرئي، خارج الزمن بالدرجة الأولى.

أصداء السيرة الذاتية

أصداء السيرة الذاتية للأديب العربي نجيب محفوظ بدأت بعنواني “الدعاء” و”الرثاء” وانتهت بعنوان “الفرج”، حيث انتشرت الاستعارة في كتابات خالفت كل الأساليب التقليدية. العالم هو الكهف الكبير الذي علقنا فيه جميعًا، والمخبأ الوحيد للخروج منه هو الانتظار فيه. وقال الشيخ عبد ربه الطائي: “انظر إلى باب الكهف ولا تغض بصرك عنه حتى ترتعش جذورها وتنتظر التنوير”. وكأن الانتظار رهينة لحدث انفراج للشعب. وليتجسد قول آخر للرحالة: “مع شهيق الكون وزفيره، تتجول كل الأفراح والآلام”.

في كتاب “أصداء السيرة الذاتية”، كسر نجيب محفوظ كل قواعد كتابة السيرة الذاتية التقليدية، وكسر كل الأعراف التي سبقه إليها معظم كتاب السيرة الذاتية من الغرب والشرق، وكأن الهدف حتى “كتابة” الصدى “العائدات” أو “صدى الكتاب” كان المقصود منها التأمل في الإنسان، أغرب المخلوقات وشذوذها، أو الظروف التي يتغير فيها بين عشية وضحاها أو الكون يتحرك بلا هوادة رغم اختلاف مخلوقاته.

عفاف عبد المعطي” src=”https://img.youm7.com/ArticleImgs/2024/8/30/5200-Afaf-Abdel-Moati.jfif” style=”width: 550px; الارتفاع: 550 بكسل;” title=”عفاف عبد المعطي”>
عفاف عبد المعطي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top