كان وجهها أصفر اللون، وكانت في الثانية والعشرين من عمرها، وكانت تبدو كامرأة عجوز تفتح الأبواب، وكان بيننا حارس أمن. وكانت متكئة على الكرسي وهي حامل في الشهر الرابع ومات الجنين في بطنها. منذ أيام، كان الألم يمزق بطنها. في نصفين، يتنفس الجحيم، ممزوجًا بالضيق الرهيب.
- ألمانيا تعيد لوحة نهبها النازيون من متحف هتلر إلى ورثة مالكها.. شاهدها
- حسن الصباح كما رآه الفن التشكيلى.. كذاب دموى
- أفضل 100 كتاب في القرن الحادي والعشرين.. بين العالم وأنا - اليوم السابع
كانت الخطوات التي خطتها وكأنها تحمل حجارة الأرض. مشيت بعينيها تتوسل لي: “أبي، خذني من هنا، أريد أن أذهب لها”. الألم داخل جسدك، وليس في جناح المستشفى. تحملها لفترة من الوقت حتى ننتهي منها. نظرت عيناها إلى الأرض بندم شديد وسألت: هل باعني أبي؟ فهل يرضي شدة الضيق الذي أنا فيه؟ وربما قالت إنه في لحظة ضيقها الدائم كانت الابتسامة التي كنت أحاول مواساتها بها تتلاشى، وكانت عيناي في حيرة من بؤسها وألمها الشديد جزءا صغيرا منها، كيسا لا يزيد حجمه عن جرام. لقد كانت كومة معقودة. لقد ابتهجت بذلك لعدة أيام. فإذا خرج الرجاء بصعوبة بالغة، تتفتت وتتعثر.. واستمرت وتيرة تبرعمها ثمان وأربعين ساعة، بينما وقفت الروح في الحلق واشتعلت النار في أحشائه. لم يبرد كل أعصابه لحظة واحدة، ولاهثت، مع اقتراب الموت منها، وتساءلت في نفسها: هل هذه هي النهاية؟ الهاتف، محاولاً بث الأمل فيها، وأن القضية انتهت، ولم يعود إلا القليل، لكن صوتها صرختها تطلق رصاصتها في القلب، وتخترق سهامها وتتركني أشلاء. أستجمع قواي بسرعة وأقف بثبات، وأتحدث معها بصوت قوي أجش، لكن صوت الهاتف يضعفني معها. الإغماء، صوت امرأة عجوز، أنهكها الزمن والمرض.
في ليلة الليلة الأولى، تجولت أفكاري حول ما كانت تعانيه لن تنام، وربما لو حاولت، ستهاجمني الكوابيس، وتزعج نومي، وأن ألمها سيخترق الجدران دعه يأتي إلي، فهي في الطابق الرابع، وأنا في صالة الاستقبال أنتظر. إنه ليس جناحاً، بل هو خارج المستشفى، حيث يقضي عائلات المرضى الليل. يقولون: “عليك أن تنام إذا كنت تريد الجلوس”. استلقت الأمهات على الأرض وسرقن لحظات من النوم لتخفيف تعبهن، عرفت من التجربة مدى صعوبة ابنتها حتى أنها لا تستطيع النوم أو الراحة، اشتريت الجريدة ونظرت فيها محاولاً طرد الأفكار السيئة وهذا الألم من جفني الخيال، وكلّما همهمتها أتت عليّ صورة. ابنتي الصغيرة، تعاني من آلامها وحيدة، قريبة مني، ولا أستطيع أن أحفظ عنها ولو جزءً صغيراً منها، أو أطرد خوفها، وهي الآن تعد الثواني التي لا نهاية لها، وأنا هنا أيضاً، ونحن كلاهما في حالة يرثى لها، لقد مرتا كالسنوات الثقيلة، فالزمن لم يتغير، حتى دون أن يلاحظهما الآخرون، كأنهما جبال عظيمة بأثقالها. يطلبون الرحمة منهم. أن تمر، أن تسرع، أن تذهب، ثم تشعر بالثقل والمزيد من التراخي، لا تستمع إلى بكاء أو إلى أذن أحد، كان الوقت في مساء اليوم الثاني، ذلك الألم العنيف من قضيتها الداخلية، لتضيء الحياة يصل قليلا.
- أفضل 100 كتاب في القرن الحادي والعشرين.. بين العالم وأنا - اليوم السابع
- ألمانيا تعيد لوحة نهبها النازيون من متحف هتلر إلى ورثة مالكها.. شاهدها
- حسن الصباح كما رآه الفن التشكيلى.. كذاب دموى
لحظات، ثم دقائق، وتعود الحياة إلى سابق عهدها، وقد أعطتنا درساً في الألم والبؤس، درساً في معنى البنوة، حين تتكئ على ظهور الآباء، فتصير جداراً صخرياً، و تقف شامخة أمام الرياح، لكن بقدر ما تستطيع، هناك أشياء جميعنا ضعفاء أمامها، لا الحياة علمتها درسًا، وعلمتني درسًا، علمتها درسًا قاسيًا في الأمل. والألم، وأعطاني درساً قاسياً في ألم الشعور، الشعور عندما… يحترق بآلام الأطفال الصغار والكبار، التي طبعها الله فينا، لتستمر الحياة، بين ألمان، بين النقطتين، الحياة والموت. كيف تكون الأمومة، وبعدها تتبعها كل امرأة. طريق الشوك والمعاناة الذي تصنعه تحرسه في أرض البؤس، فتسمع صوت طفلها الخارج من بطنها، وتسهر عليه نهارا وليلا، وتزرع زرعا من صدرها ، وأنبته لحظة بلحظة، وأخرجت منه كل شيء. الأعاصير والوقوف في وجه الأخطار، حتى ينمو من لحمه ودمه، ويبتلع شوكة الدمار، حتى يستمر في التنفس ويصبح إنسانًا.
عادت إليها الحياة بعد أن غاب عنها الألم يومين متتاليين، رأيتها والدماء تسيل على وجهها، وبدأت تعود إلى لونها الطبيعي، بعد أن تلاشت من التعب الزائد وابتسمت لها. ما أعظم أن تكون أبًا ثابتًا، في وجه كل خطر. تستحق كل امرأة أن ترفض، أن تكرر معاناتها وألمها، لكنها تنتمي إلى الحياة والطبيعة. سيرزقني الله حملاً آخر، رغم كل هذا التعب، قبلت ابنتي الصغيرة ثم عدنا إلى المنزل ومعنا ثروة من دروس الحياة.