الناقد أحمد حسن عوض يكتب: صلاح عبد الصبور خصوبة متجددة

في الذكرى الثالثة والأربعين لرحيل الشاعر المصري الكبير صلاح عبد الصبور، أدهشني ذلك السؤال العابر: هل مازال عبد الصبور قادراً على أن يقول لنا شيئاً جديداً، كما كان يكتب دائماً وللجميع الشعر، وصب المسرح؟ والنقد والترجمة والأفكار الجديدة في الفن والحياة؟

وكما كان السؤال عابرا، كانت الإجابة “نعم” حاضرة أيضا على الفور، ليس فقط لأن صلاح عبد الصبور هو أحد كبار الموسوعيين والمثقفين الذين استطاعوا إثراء الحياة الأدبية باستمرار بخصوبة إبداعية وفكرية متجددة، بل لأنه كان أيضا الرجل الأول في الحياة الأدبية. صاحب رؤى عميقة وبصيرة ثاقبة نقلها إلينا في إبداعه، وكانت تلك البصيرة مبنية على صفاء ذهني ملحوظ وثقافة معاصرة وتقليدية في نفس الوقت ظاهرة ولم ينظر إلى الظاهرة الفنية أو الأدبية أو الشعرية من منظور جزئي معزول عن المؤثرات الثقافية والنفسية والمجتمعية المحيطة به (خذ على سبيل المثال دراسته الغنية المتعمقة لعلي محمود طه، كتابه النقدي). وكانت للنظرة تلك الشمولية الإنسانية التي تمتد إلى امتداد الإنسان نفسه وتفاعلاته مع مختلف مؤثراته الخارجية والداخلية. وتأمل في هذا السياق حديثه عن الإنسان في افتتاحية كتابه الأهم “حياتي في الشعر”: “عندما قال سقراط: “اعرف نفسك”، تحول مسار البشرية، حيث حاول هذا الفيلسوف العثور على الذرة الكونية العظيمة التي تسمى إلى تجزئة. الإنسان الذي يتكون انسجام أفراده مما نسميه المجتمع، ومن حركته نسميه التاريخ، ومن لحظات نشوته ما نعرفه بالفن لرؤية ثراء نظرته التي لا تدرك الإنسان المطلق – هنا والآن – يعود تاريخه إلى فجر الحضارة اليونانية البعيدة، حيث تميزت مواهب الفنانين والفلاسفة والمؤرخين، وتنوعت جوانب تفردهم نتيجة سعيهم إلى فرديتهم أنت أيضًا يعرف وانظر أيضاً ما قاله في أحد حواراته مع نبيل فرج في كتاب “صلاح عبد الصبور: الحياة والموت”: “إن هناك مطلقات حديثة أشد فتكاً بالناس من الموت، مثل اللامبالاة العامة، والخوف العام، والخوف العام”. “بعض الأفكار الاستبدادية التي تقتل الكفاءة في الناس” ص87.

ولا يسعك إلا أن تعجب بالعمق الكبير والتشخيص الدقيق للمؤثرات الفعالة والعيوب المجتمعية التي تحدث في العصر الحديث عندما يتخلى الإنسان عامة والفنان خاصة عن دوره المنشود وحيويته المتسرعة إلى قاطرة الحياة لدفع النمو والتجديد. . ويقف أمام أعدائه المتفرغين للكسل الروحي والاتكال والخضوع والاتكال. وصوت الناقد المفكر لا ينفصل هنا عن صوت الشاعر الأوائل الذي استنكر أعداء الحياة في نص شنقة زهران.

لقد مات زهران والحياة في عينيه
فلماذا قريتي خائفة من الحياة؟

ولن يتحقق ذلك – كما يقول عبد الصبور في سياق آخر، حتى لو كان يعزف على نفس الوتر – إلا “إذا كان الفرد مستقلا عقليا، وله قناعاته الخاصة التي لا تفرض عليه قوانين قسرية أو تلقين جماعي” : المرجع نفسه. ص 134. وهذا الوعي هو أحد دروس عبد الصبور العميقة التي يجب على كل مبدع يسعى إلى معرفة نفسه، وتنقية ذاته الفردية، واستخلاص صوته من ذلك الزئير الجماعي، صراخ محموم اختلط فيه غير التقليدي بالنبيل، وضاعت قيم الحق والخير والجمال والانتماء. وإذا كانت معظم رؤى صلاح عبد الصبور قاتمة ولم تسعد أصحاب التفاؤل الساذج الذين لم يؤمنوا بالواقع -هنا والآن- فقد ظل حتى آخر نفس مؤمنا بأن دوره الحقيقي هو حماية أعين الناس من الانفتاح على الحياة، الذي يتنفسه. بكل شغف ومرارة، كما قال سابقاً في مقال بعنوان “أيضاً في الشعر المصري الحديث”. وفضل عبد الصبور منطق “الصدق” على منطق “الزخرفة”. وخاطب حبيبته وقال في قصيدة “رسالة إلى صديق”.

: واغفر له ما يرجو أن يتكلم من بلاغة
وكل ما يعيش فيها قاحل وكئيب؟

وإيماناً منه بأن الشاعر الحقيقي هو المتجذر حقاً في قلب لحظته الحاضرة، فإنه يظهر لقارئ شعره ومسرحه بوجهه الأسمر الحزين الصامت الساخر، بلغة يرفض الجميع مستحضرات التجميل والكلمات التي يرفض أن يكون كالفخار الملون – كما عبر عنه في مسرحية مأساة الحلاج – ليظهر معارضا لمنطق البلاغة القديمة الذي يحاول تزيين الحياة به منطق الأكاذيب البلاغية التي تسعى إلى المرتبة أو الأفضلية أو الثراء السريع وكثيرا ما لاحظ هذه الرؤية الاطرائية في دراماته وشعره بنظرة ساخرة قوضت ذلك الفعل وكشفت عن أهدافه المادية المنافقة كما نرى مثلا في كلامه عن شفاه السجين الثاني. السجين الأول في مأساة الحلاج:

“تعالوا، احملوني إلى القصر الأبيض
ليحمد ربنا والي الشام
مع قلادة بحرف L
سأعود بالمهر، بنتاً وولداً

ولذلك ظل عبد الصبور في إبداعه، يقاوم الكذب والاستبداد والظلم، وينقاد لقيم الصدق والحرية والعدالة، يدق أجراس الإنذار حتى لو صماء الآذان وتشتت العقول عما حولها، مختارا دور “النذير” وليس دور “المبشر”، كما وصف حلمي سالم تجربته الشعرية في كتابه “هيا إلى الآب”. إذا كانت حياة صلاح عبد الصبور تنتهي سريعا في خمسين عاما وثلاثة أشهر؛ لقد ترك وراءه إرثا عظيما لا يزال ينتظر قارئه في كل لحظة، رغم حلمه الدائم بإضافة المزيد، وطموحه المتجدد للمزيد. لكن هذه هي الحياة التي تحدث عنها عبد الصبور نثراً في كتابه «على مشارف الخمسين» بلهجة آسيوية عذبة جداً تقترب من منزلة الشعر الرفيع: «أليس هو الشعور الذي ينتاب كل الناس عندما يقفون جانباً؟» التل عندما يدركون أن الحياة منحتهم آمالاً واسعة ووسائل محدودة وأن ما قدموه لأعينهم في أيام الشباب الذهبي كان نطاقاً واسعاً لا يملكه إلا المتميزون عندما الماء يجري أو يسبح؟ السماء… أليس كذلك؟ الإنسان محكوم عليه بالإحباط في هذا الكون المتشابك المتناثر بالشظايا، هل عرفنا كل ما أردنا معرفته، وقرأنا كل الكتب التي أردنا قراءتها، وداسنا على كل ما أردنا أن تطأه أقدامنا، وظهرت في عيون كل النساء. أحبنا؟ نعم يا صلاح، لقد مرت الحياة بسرعة، ولكن لا يزال بإمكانك إخبارنا بذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top