النبى أيوب.. بين القرآن والتوراة والحضارات القديمة – اليوم السابع

سيدنا أيوب عليه السلام من أشهر الشخصيات بسبب ارتباطه بمصير المرض وصبره عليه، ولكن ماذا كانت حياته في العالم القديم بين القرآن الكريم، والتوراة، والحضارات القديمة ؟

يقول كتاب القصص القرآنية وأمثالها الكتابية: أساطير القدماء للمفكر السوري فراس السواح.

أيوب:
(1) الوظيفة في ثقافة الشرق القديم

فكرة المعذب الصابر الذي تأتيه المصائب من كل حدب وصوب رغم تقواه وصلاحه، هي فكرة قديمة في الفكر الديني للمنطقة الشرقية. كان رجل الشرق القديم يرى في ما يصيب الأفراد من مصائب ومحن عقابا على الذنوب والتجاوزات، لكن حكماء الشرق، رغم إيمانهم، كانوا منشغلين بالتفكير في قضية تتعلق بالفكر الديني والفلسفي المقدم في معظم الثقافات، وهو ما يمثل البؤس. من الصالحين الذين عاشوا حياة أخلاقية عادية وصلوا. لقد قدموا القرابين لآلهتهم وقاموا بواجباتهم الاجتماعية على أكمل وجه. ولدينا نصان حول مثل هذه التأملات من ثقافة الشرق القديم: الأول سومري يعود إلى أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، والثاني بابلي يعود تاريخه إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد.

(٢) أيوب السومري

في هذا النص يتحدث المؤلف بصوت رجل لا نعرفه. لقد كان بلاطًا ملكيًا ثريًا وحكيمًا وعادلاً. وبينما كان يظن أن هذه الحالة ستدوم عليه، بدأت المصائب تتراكم عليه، وأصابته الأمراض والعلل دون سابق إنذار وهو في ريعان شبابه. فهو من قبله إما تمرد على السماء واحتقر العدل الإلهي، أو خضع للدينونة الإلهية وسعى إلى الصلاة والدعاء. لأن نوايا الآلهة، على حد قول الحكماء الشرقيين، مخفية عن فهم البشر. وأخيرًا استجاب الله لهذا البار المتألم، فكشف ضرره، وحوّل معاناته إلى فرح وسعادة. وهنا مختارات من النص:

ليرفع الإنسان دائمًا كلمات الثناء على ربه،
يخبره بصدق عن كل ما يراه.
أنا رجل واسع المعرفة وغني بالمعلومات، لكن من يحترمني لم يعد ناجحاً.
كلامي الصادق تحول إلى كذب
لقد هزمني رجل المكر والخداع، واضطررت إلى خدمته.
من لا يكرمني فقد أذلني أمامك يا إلهي.
وها أنت تغرقني في عذاب مستمر ومتجدد.
أدخل بيتي بروح ثقيلة،
أمشي في الشوارع بقلب حزين.
إن ملكي، الراعي الصالح، انقلب عليّ ونظر إليّ بعداء،
لقد أطلق العنان لقوى الشر ضدي، على الرغم من أنني لست عدوًا له.
ولم أعد أسمع كلمة حق من أصحابي.
وأصدقائي يواجهون صدقي بالكذب،
وتآمر عليّ رجل المكر والمكر،
وأنت يا إلهي لا تردعه ولا تحبط جهوده.
أنا الرجل الحكيم، لماذا أرتبط بالشباب الجاهلي؟
وأنا العراف العليم لماذا أحسب بين الحمقى؟
الطعام متاح للجميع، لكن طعامي جائع،
يوم تفرق الوجود كان نصيبي العذاب.
يا الله أقف في حضرتك،
أريد أن أتحدث معك وكلامي كله آهات وآهات.
أريد أن أشكو إليك حالي، وأن أندب مرارة طريقي.
أتمنى أن لا تتوقف أمي عن البكاء عليك.
أتمنى ألا تتوقف أختي أبدًا عن الشكوى من خيبة أملي معك.
نرجو أن لا تتوقف زوجتي أبدًا عن الرثاء لعذابي،
دع المغنون يغنون لنصيبي البائس البائس.
يا إلهي، النهار يغمر الأرض، لكن يومي أسود.
الدموع والنحيب والألم والحزن تسكنني.
لقد تغلب علي القلق ولا يوجد شيء يمكنني فعله سوى البكاء.
شيطان القدر يوجه قبضته نحوي ويحرمني من نفس الحياة.
وشيطان الأمراض الخبيثة يستعر في جسدي.
يا الله أنت أبي الذي ولدتني.
إلى متى ستظل تتجاهلني تائهًا وبلا هدى؟
وصدق حكماء القدماء حين قالوا:
لم يولد لامرأة بلا خطيئة،
منذ العصور القديمة لم يكن هناك إنسان على وجه الأرض بلا خطايا.
وبعد فقرة بها تحريفات وثغرات كثيرة، نجد أن النص يستمر في الحديث عن استجابة الله لدعاء المعذب الصالح:

ذلك الرجل سمع إلهه بكاءه ونحيبه،
وشكاوى وتوسلات ذلك الشاب طمأنت قلب إلهه.
وقبلت منه الكلمات النقية الصادقة التي نطق بها،
ففرح قلبه وأبعده عن يد الشر.
لقد طرد الشيطان الشرير الذي كان يحيط به وبسط جناحيه عليه.
لقد حول معاناة الشاب إلى فرح،
ووضع عليها أرواحاً طيبة تحرسها وتحميها.
وكان الرجل يمجد ربه دائما.

(٣) أيوب بابل

ويعالج نص أيوب البابلي فكرة المعذب المريض بطريقة مماثلة، ويُعرف بـ “تمجيد إله الحكمة”. ونظراً لطول النص، سأذكر أهم الأسطر:

لتمجيد إله الحكمة الرب المتأني والمتأني.
مردوخ، إله الحكمة، المفكر العميق.
الذي يحرس الليل ويفرج النهار.
مغلفًا بالغضب مثل رياح العاصفة،
ومن اتسع صدره بالنعمة، واتسع قلبه بالمغفرة.
لقد تركني إلهي واختفى
إلهتي تركتني ورحلت عني
لقد تركتني الروح الحارسة التي ترافقني.
تهان كرامتي، وتضعف رجولتي،
عندما أنام، تهاجمني رؤى مرعبة.
الملك، ابن البشر وابن الآلهة
إنه غاضب مني ولا يستطيع قلبه أن يهدأ تجاهي.
رفعت رأسي عالياً وانحنيت بفخر إلى الأرض،
قلبي الشجاع أضعفه الخوف.
بعد أن كنت سيدًا محترمًا، أصبحت عبدًا.
لقد تعرضت للسخرية والسخرية من العديد من أصدقائي.
أصدقائي أصبحوا غرباء عني
وتحول أصدقائي إلى أشرار وشياطين،
وفي غضبهم تبرأوا مني وتبرأوا مني.
لا أحد بجانبي ولا أحد يفهمني.
ممتلكاتي متناثرة بين الرعاع والغرباء.
في النهار يسمع تنهيدي، وفي الليل يسمع عويلي.
فصرت كمن لم يقدم ذبيحة لإلهه.
فصرت كمن لا يشكر آلهته في كل أكلة.
مثل من لا يعرف الركوع ولم يعرف السجود قط.
مثل من لا يعرف فمه الدعاء والصلاة،
كالذي أكل طعامه ولم يذكر اسم إلهه.
بالرغم من حرصي الدائم على الصلاة
بالنسبة لي، كان يوم الصلاة فرحة للقلب.
ولكن ما يبدو جيدًا للإنسان قد يكون مكروهًا عند الله.
هل يعرف أحد إرادة الآلهة في السماء؟
وها هي الأمراض المؤلمة التي تسكن جسدي،
والرياح الشريرة تهب من الآفاق نحوي.
سيطر الضعف على جسدي، وهاجم الألم مفاصلي.
جاءني الموت وظهر على وجهي،
جنازتي معدة والقبر يناديني.
وقبل أن تفارقني الروح توقف بكائي.
وبعد أن يصل يأس الرجل إلى ذروته، تأتيه علامات الخلاص من خلال الأحلام التي يراها. ثم يتدخل الإله مردوخ لاستعادة صحته وممتلكاته وكرامته:

طرد مردوخ الرياح الشريرة التي تهب من الآفاق،
اقتلع مني أصول الضعف كما تُقتلع الشجرة.
وها أنا أسير في الشوارع خاليًا من كل مرض وألم.
وينبغي لأي شخص ارتكب خطأ ضد مردوخ أن يتعلم مني.
رفعني مردوخ وأمسك بيدي،
واضرب اليد التي جرحتني.
من غير مردوخ يستطيع إعادة الموتى إلى الحياة؟
ما دامت الأرض مديدة والسماء عالية
ما دامت الأنهار تجري والرياح تهب،
دع أبناء البشر يحمدون الله مردوخ.

(٤) الوظيفة في التوراة

وقصة المعذب الصابر تظهر مرة أخرى في سفر التوراة، في كتاب خاص به، وهو سفر أيوب. تحتوي القصة الكتابية على جميع عناصر قصة بلاد ما بين النهرين، ولكن مع تركيز أقوى على دور الله في تجارب ومصائب ذلك المعذب، واستخدامه للشيطان كوسيلة له.

وكان أيوب رجلاً حكيماً ومستقيماً، يتقي الرب ويتجنب الشر. وكانت مواشيه سبعة آلاف من الغنم، وثلاثة آلاف من الإبل، وخمسين فدانًا من البقر، وخمس مئة حمار، وكان عبيده كثيرين، فكان أعظم شعب المشرق (1: 1-3). وفي أحد الأيام جاء أبناء الله (= الملائكة) ليمثلوا أمام الرب، وجاء الشيطان معهم، فسأل الرب الشيطان إن كان يقصد الشر لأيوب. لأنه لا يوجد إنسان صالح وكامل مثله. فأجابه الشيطان: هل مجاناً أيوب يتقي الرب؟ أليس لأنك سيّجته وباركت أعمال يديه التي نشرت مواشيه في الأرض؟ ولكن تمد يدك وتضر بجميع أمواله فيشتمك”. هنا تدخل الشكوك إلى نفس الرب في قضية أيوب، فيريد أن يعرف ما وراء نفسه وأسباب بره، فيطلق يد الشيطان على أيوب ويفعل به ما يريد بشرط أن يحفظه. حيًا، ليعلم هل أيوب لا يؤمن إن زالت عنه البركة أم لا (1: 6-12).

وهكذا يبدأ الشيطان عمله. وفي أحد الأيام سرقت أبقاره وجماله، وقتل اللصوص جميع عبيده، وسقطت نار وأحرقت قطعان غنمه، ثم تهدم البيت على أولاده، فماتوا جميعاً: قام أيوب وحلق شعره و فسجد إلى الأرض وسجد وقال: عريانًا خرجت من بطن أمي، وعريانًا أعود إليها. الرب أعطى والرب أخذ. وليكن اسم الرب مباركا إلى الأبد. وفي كل هذا لم يخطئ أيوب ولم يتهم الله بالحماقة” (1: 12-22).

وبعد ذلك يأتي الشيطان ويظهر مرة أخرى أمام الرب، ويوبخه الرب على حيله. لأن أيوب لم يخطئ ولم يجدف، رغم ما حل به من مصائب. يقترح الشيطان أن يستمر الاختبار، وهذه المرة سيؤثر الضرر على أيوب في جسده وصحته. فأطلق الرب يد الشيطان مرة أخرى على أيوب. فخرج الشيطان وضرب أيوب بقروح خبيثة انتشرت في جسده. ثم أخذ كسرة من خزف وفركها وهو جالس على رماد منزله المحترق، وقال لزوجته: هل نقبل خير الله، ولا نقبل الشر؟ وفي كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه” (2: 4-13).

عندما اشتدت آلام أيوب، رفع صوته طالبًا الرحمة والعدل: “هل أنا ملاح أم تنين حتى جعلت عليّ حارسًا؟ عندما أقول: سريري يواسيني، سريري يزيل قلقي، ترعبني بالأحلام، وترعبني بالرؤى، وتختار روحي أن تختنق، ميتة فوق عظامي هذه، فقد ذبلت. لا، أنا أعيش إلى الأبد. كف عني فإن أيامي تذمر حتى تفكر فيه، حتى تضع عليه قلبك، وتهتم به كل صباح، وفي كل…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top