ونواصل مع سلسلة مقدمات الكتب، ونتوقف اليوم مع كتاب “هكذا تكلم ابن عربي” للدكتور. نصر حامد أبو زيد. وماذا يقول في مقدمة الكتاب؟
- الأكاديمية المصرية للفنون بروما تحتفل بمرور 95 سنة على تأسيسها
- إسبانيا تلقى القبض على تاجر تحف بتهمة بيع منحوتة مصرية عمرها 3500 عام
- حصول الباحثة شيماء المليجى على ماجستير بتقدير امتياز عن رقمنة الإصدارات الصحفية
مقدمة:
ويصعب على المسلم أن يفصل في تجربته الدينية بين التجربة الروحية والأسس العقلانية التي تتبلور تدريجيا في وعيه بإيمانه ودينه. وفي بنية الحياة الدينية اليومية في القرية المصرية، حيث نشأت في أسرة ريفية متواضعة، يعد التصوف العملي من أبرز السمات التي يمكن ملاحظتها في هذا النسيج.
تعتبر قصص الأنبياء وأكرام الأولياء وأحاديث السلف الصالح من أهل البلدة والقرى المجاورة من أهم المعارف المتعلقة بالطفولة وذكرياتها. وبمجرد أن يتعلم المرء الكلام، يبدأ التعليم بحفظ القرآن وزيارة المسجد للصلاة. وتقام في المسجد حلقات الذكر بعد صلاة العشاء آخر الصلوات الخمس، كل “خميس” – مساء الجمعة – والتي تسمى “الحضرة”، حيث ينتظم “الكبار” على شكل “دائرة” ” . “، ويتحركون في حركات متميزة يميناً ويساراً مع ترديد بعض الأغاني بقيادة الشيخ الحضرة. تدريجياً يتسارع إيقاع الحركة حتى تصبح اهتزازاً عنيفاً شبيهاً بالرقص، ويتسارع إيقاع الإنشاد بنفس الدرجة، حتى يصبح من المستحيل التمييز بين الكلمات. ثم يركز الإنشاد على ترديد اسم “الله”، ومع زيادة السرعة في الرقص والغناء، يتم اختصار الاسم إلى الحرف الأول والأخير – “آه” – فقط من كلمة “الله”. يبدأ بعض المشاركين بالصراخ ويخرجون عن الإيقاع، ويصرخون، ومنهم من يسقط على الأرض في حالة شبه إغماء، وهي حالة “الانجذاب” و”الانقراض”.
كان يُسمح لأطفالنا أحياناً بالمشاركة، لكن خارج “الدائرة”، وكان البعض منا يريد أن يثبت أننا وصلنا إلى حالة “الجاذبية” مثل الكبار.
نحن نكبر ونقرأ ونكتسب المعرفة، لكن جذور تجربة طفولتنا تظل عميقة داخل كل واحد منا. وفي حالتي أخذتني الحياة بطرق مختلفة، وأخذتني في مسارات عديدة، حتى قررت أن أتخصص في دراستي العليا في مجال “الدراسات الإسلامية”. تجربتي في الحياة والتعليم أبعدتني عن “الصوفية” إلا من خلال علاقة خاصة مع أحد أصدقاء والدي المقربين.
لقد مات والدي، لكن علاقتي بالعم حسن –اسم هذا الصديق- سلكت طريق الصداقة الحميمة. كان هذا الصديق فلاحًا بسيطًا، لكنه كان شاعرًا، وقارئًا للشعر الصوفي بشكل خاص. وكان يسافر كثيرًا لزيارة الأضرحة والتبرك بحي “أهل البيت” بالقاهرة لفترات طويلة أو قصيرة. لقد اعتبرني مصدر ثقته، فكشف لي أسرارا لن يبوح بها لأي من أبنائه، وخاصة عائلته. كنت أكن لشعره احتراماً وتقديراً كبيراً، وكنت أحرص على التعبير عن هذا التقدير والإعجاب.
- الأكاديمية المصرية للفنون بروما تحتفل بمرور 95 سنة على تأسيسها
- وزيرة الثقافة تلتقى نظيرها القطرى لبحث سبل دعم التعاون المشترك
زارني العم حسن ذات يوم، وكان يبدو عليه الانزعاج الشديد، وكأنه يحمل جبلاً من العبء على كتفيه. ظللت أسأله: ماذا يحدث؟ ماذا حدث ليجعل وجهك يبدو مضطربًا ومتعبًا جدًا لدرجة أنك مريض؟ لكنه ظل صامتا، ذلك الصمت المؤلم. وأخيراً قرر أن يتكلم. قال: هذا سر لم أعد أستطيع حمله. أعلم أنني سأعاقب على كشف السر، لكني لا أستطيع تحمل إبقاء الأمر سراً. وازداد قلقي وظننت أن الرجل قد أصابه كارثة. فقلت له: يا عم حسن، نظف نفسك وأخبرني ألست أهلاً لثقتك، وفي نفس وضع “ابنك”؟ فقال: والله يا نصر، أنت أكثر ولداً وأحب من جميع أولادي. أنت الابن الحبيب للحبيب رحمه الله -يعني أبي- لذلك سأكشف لك. السر الذي يعذبني الحفاظ عليه. بدأت الدموع الصامتة تتدفق من عينيه، حاول إيقافها، لكنه لم يستطع. ثم استجمع قواه وانفجر وقال: يا نصر يا بني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام. انفجر بالبكاء، ما أختي رحمها الله، جاءت لتسأل ما الأمر؟ لكني صرفتها واقتربت من عم حسن فلم يتوقف عن الكلام وارتفعت تنهداته: “لقد رأيته والله تعالى فقلت له: أحبك يا رسول الله، فأجاب” أنا: أحبك يا حسن.
لم أكن أعرف ماذا أقول إلا أن أتمتم ببعض العبارات التي لا معنى لها. ولم تكن القضية مفهومة بالنسبة لي حينها، رغم تعاطفي الشديد مع العم حسن. بدأ يهدأ تدريجياً بعد إزالة السر العاجل، السر الذي يمثل الكشف عنه خطراً قد يؤدي إلى العقاب. فسألت العم حسن: ما العقاب الذي سيحدث إذا كشفت لي هذه الرؤيا؟ فقال: يا بني إني أخاف أن يتركني الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يظهر لي مرة أخرى. فهل هناك عقوبة أشد من فراق المحبوب؟! وبقدر ما فهمت موقفًا كان جديدًا تمامًا عليّ، حاولت طمأنة العم حسن بأن رسول الله لن يتركه. وفي نفس العام تقريباً، قرر عم حسن أداء فريضة الحج، ولتغطية نفقات الرحلة إلى الأراضي المقدسة، باع قطعة الأرض التي كان يزرعها، رغم معارضة أبنائه ومحاولتهم منعه بالقوة.
لم أفهم كثيرًا من الجوانب العاطفية والروحية في رؤية العم حسن، إلا بعد سنوات عندما بدأت بدراسة “فلسفة التأويل” لابن عربي، فهمت معنى “السر”، ومعنى “الكتمان”، وأهميته. في التجربة الروحية، وكيف يتم “الوحي”، ومتى ولمن. لقد فهمت أكثر المعنى الروحي العميق للحج، وأهميته للتجربة الروحية، بالإضافة بالطبع إلى أهميته الشعائرية الرمزية لكل مسلم. ومن خلال دراستي للتصوف أدركت معنى “الذكرى” وأهميته، وفهمت لماذا يكون التذكر على شكل “دائرة”، وما معنى تكرار اسم “الله” ولماذا الاسم مختصر بمعنى أوله وآخره. والأهم من ذلك أنني أصبحت قادرًا على فهم معنى “الجذب” و”الانقراض” و”التمزق” وما إلى ذلك.
- السلطان برقوق بن أنس يتولى حكم مصر.. تعرف على مؤسس دولة المماليك الثانية
- الشك يحوم حول رحيلهم.. التشيلى بابلو نيرودا والشاعر جيفرى تشوسر
- معرض ملكي جديد يعرض صورا مؤثرة لكيت ميدلتون
لم يكن الدافع لدراستي للتصوف، وفكر ابن عربي على وجه الخصوص، فقط تلك الشوق الناشئ عن تجارب الطفولة الدينية في قريتي، تلك التجارب التي ساهمت فيها تجربة العم حسن، بل كان الدافع لتعميقها هو دافعي إلى دراستي للتصوف. رغبة في استكمال معرفتي بالمحورين الأساسيين للتراث الإسلامي: العقلانية والروحانية. أكملت دراسة الماجستير في “مسألة المجاز في القرآن عند المعتزلة” – والتي صدرت لاحقا تحت عنوان “المنهج العقلي في التفسير” – وهم علماء دين مسلمون حاولوا خلق تفسير عقلي للعقيدة الإسلامية، نتج عنه تطوير مفهوم لغوي وبلاغي – وهو مفهوم “الاستعارة” – كأداة لإزالة أي تعارض محتمل بين “الوحي” و”العقل”. أثارت النتائج التي حققتها في تلك الدراسة العديد من التساؤلات، وكانت تلك التساؤلات -إلى جانب الدافع الديني الشخصي الذي عمقته علاقتي بالعم حسن- هي التي حفزتني على الدخول في مجال “التجربة الروحية التي أحاول اكتشافها” – كما اقترح بالتجربة الصوفية لممثلها الأكبر “ابن عربي” – وأثرها في صياغة إطار تفسيري للوحي.
- أمسية فلكية لمشاهدة القمر الأزرق في مكتبة مصر الجديدة
- افتتاح معرض "فى صحبة محمود سعيد" بمجمع الفنون بالزمالك.. الثلاثاء
- الشك يحوم حول رحيلهم.. التشيلى بابلو نيرودا والشاعر جيفرى تشوسر
وعندما انتهيت من الدراسة، وقبل أن أطبعها وأوزعها على أعضاء اللجنة العلمية للحصول على درجة “الدكتوراه”، أدركت أنه بإمكاني إعادة كتابتها وفق خطة أخرى، تأخذ فيها النصوص والحواشي مكانها. مكان. . واعتمدت في ترتيب أبواب وفصول الرسالة على التقسيم الفكري الفلسفي. وخصص الفصل الأول لمسألة “التفسير والوجود”، والثاني لمسألة “التفسير والإنسان”، فيما تركزت مسألة “القرآن والتفسير” في الفصل الثالث. وبعد أن انتهيت من كتابة الأطروحة وفق الترتيب والتنظيم المذكورين، أدركت أنني بحاجة إلى إعادة كتابتها بطريقة مختلفة تسلط الضوء على مسائل التفسير بحيث تشغل “متن” الأطروحة، بينما “الهامش” ” سيكون كافيا للتعامل مع قضايا ذات طبيعة فلسفية بحتة.
عندما أخبرت المشرف عن نيتي ونيتي في تغيير الخطوط العريضة للأطروحة، وبالتالي إعادة كتابتها، رفض الفكرة رفضًا قاطعًا. حاولت أن أشرح له مبرراتي، لكنه رفض حتى الاستماع إلي. وكان حجته أن أفكار ابن عربي وكتاباته مثل محيط لا شاطئ له ولا شاطئ، وأنه لن يسمح لي بالعودة للسباحة في هذا البحر بعد أن تمكنت أخيرا من “الخروج” منه، ولو لفترة من الوقت. “. كان تصريح أستاذي أكثر دلالة مما أدركته في ذلك الوقت، على الرغم من أنني كنت في عامي الثامن والثلاثين.
- إسبانيا تلقى القبض على تاجر تحف بتهمة بيع منحوتة مصرية عمرها 3500 عام
- حصول الباحثة شيماء المليجى على ماجستير بتقدير امتياز عن رقمنة الإصدارات الصحفية
ومنذ ذلك الحين، اشتقت للسباحة مرة أخرى في بحر أفكار ابن عربي، لكن يبدو أن الخوف من “الغرق” ظل حاضرا في وعيي. كنت أعود أحيانًا لقراءة بعض أشعاره، أو لمراجعة فكرة ما، أو لتأكيد حقيقة استنتاج كنت قد توصلت إليه سابقًا، لكن السباحة مرة أخرى في بحر ابن عربي الهائج كان يبقي حلمًا يطاردني دون المخاطرة بالمخاطرة. المغامرة مرة أخرى. إلا أن علاقتي بالشيخ الأكبر لم تنقطع قط؛ إن جزءًا كبيرًا من تكويني الأكاديمي، وتجربتي الدينية الروحية في الحياة، يعود الفضل فيه إلى الخبرات التي اكتسبتها من خلال لقائي الأول مع الشيخ الأكبر، والذي دام خمس سنوات أكملت خلالها رسالتي.
- افتتاح معرض "فى صحبة محمود سعيد" بمجمع الفنون بالزمالك.. الثلاثاء
- معرض ملكي جديد يعرض صورا مؤثرة لكيت ميدلتون
- رواية "صورة للوجه" لـ ريتا بولوينكل المرشحة للبوكر.. ما قصتها؟
وأذكر هنا أنه لولا الفرصة التي أتيحت لي بالسفر – لأول مرة – إلى الغرب، حيث أمضيت عامين دراسيين في الولايات المتحدة الأمريكية (1978-1980)، لما تمكنت من إكمال رسالتي لم يكن لديك عن “فلسفة التفسير” عند الشيخ. وأذكر ذلك الآن لأؤكد حقيقتين: الحقيقة الأولى أن قراءة الشيخ تحتاج إلى الإخلاص الكامل، وهذا لم يكن متاحا لي في مصر، حيث لم أقضي سوى سنة كاملة في قراءة “الخطبة في كتاب فتوحات مكة”. وكان من المستحيل الاندماج في عالم الشيخ بتخصيص “ساعتين” فقط من أصل الأربع والعشرين ساعة للجلوس مع الشيخ والتحدث معه. ولا أقل من أن تكون مع الشيخ ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً، يقظة ونائماً، لتكون باختصار أحد «الرغبات»، وليس مجرد «زائر» عابر لفترة. وحياتي في مصر عامة، وفي مدينة القاهرة خاصة، لم تستطع أن تمنحني نعمة الجلوس مع الشيخ والاستماع إلى أفكاره. وما لم توفره لي القاهرة، أتاحته لي مدينة فيلادلفيا ومكتبة جامعة بنسلفانيا. وفي عامين أنهيت “الفتوحات” وقرأت في الوقت نفسه عن تأويل “فلسفة التأويل” عند فلاسفة الغرب من أوريجانوس إلى غادامر، وكان من المفيد زيادة وعيي بالقضايا التي…