كيف وصف أحمد أمين مشهد وقفة عرفة في كتاب فيض الخاطر؟

وتأتي وقفة عرفات حاملة الفرح من كل جانب، حيث يدعو الداعون ويصعد الحجاج في مشهد عظيم وصفه منذ عقود الكاتب الكبير في كتابه فيض الخاطر. قال: الذين يخرجون من مكة إلى عرفات شرقا، ثم يتجهون نحو الجنوب قليلا، ثم يسيرون في واد بين جبلين، وبعد مسافة غير بعيدة تجد عن يسارك جبلا يسمى جبلا. وبنيت قبة النور التي يلمع بياضها.

وفي هذه القمة كهف مساحته ثلاثة أمتار في مترين، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج فيه ويقضي فيه أياما لا تعد ولا تحصى. وحتى ينتهي الشهر يهرب إليه من الناس وضجيجهم وغرورهم، ومن قمة هذا الجبل يتطلع إلى الدنيا من تحته؛ يستمتع بالطبيعة وجمالها، والليل وهدوءه، والسماء ونجومها، ثم يفكر في الناس ويسخر من سخافاتهم باستهزاء ممزوج بالرحمة، وسخرية ممزوجة بالرحمة.

لقد كان هارباً إلى هذا الكهف. لأنه عرف باطل القوم وأراد الحق، وعلم الظلمات التي هم فيها، وطلب النور؛ حتى لما هيأت نفسه للحق، وهيأت نفسه لليقين، نزل عليه الوحي، وأشرق النور الإلهي في قلبه، وإذا الحق قد ظهر، وإذا الله معه. ونزل من المغارة ودعا الناس إلى الاستنارة بنوره، وإحياء قلوبهم من حياة قلبه، وإلى رؤية عظمة الله في كل أثر له.

وهو جبل النور الذي يمر به المسافر من مكة إلى عرفات، وهو غار حراء في قمته.

ثم يتجه الماشي إلى الجنوب ويمشي حوالي خمسة كيلومترات ويصل إلى منى. وعند دخوله يجد الماشي على يساره جمرة العقبة، وهي عبارة عن جدار حجري يبلغ ارتفاعه حوالي ثلاثة أمتار وعرضه حوالي مترين على قطعة صخر، ويبنى تحت هذا الجدار حوض يتساقط فيه الحصى يرميها الحجاج، وهي جمرة العقبة التي يرميها الحجاج بالحصى الذي يجمعونه بعد رجوعهم من عرفات. ورمزًا إلى أن إرادتهم قد قويت، تغلبوا على الدوافع الشريرة في نفوسهم، ورجموا الشيطان؛ لم يسمعوا لدعوته، ولم يسقطوا في فخاخه التي نصبها بشهوته.

منى مكان واسع يخيم فيه الحجاج قبل نزولهم إلى عرفة وبعد عودتهم، وفيها طريق يمجد ذاكرة مصر، ويستفيد منه الحجاج من جميع البلدان. ويتم تزويدهم بالمياه التي يتم جلبها لهم من عين زبيدة، مما يوفر عليهم الكثير من العناء ويجلب لهم الرخاء والهناء.

وفي اليوم التاسع من ذي الحجة -أي في مثل هذا اليوم- يخرج أغلب الحجاج من منى متجهين إلى عرفات. ويسيرون في وادٍ بين جبلين، يتسع أحياناً ويضيق أحياناً أخرى، ساعات إلى منى، ومسجد نمرة، وقليلاً إلى المسجد. تحصل على العلمين؛ وهما عمودان بناء، أحدهما منفصل عن الآخر. ويبلغ ارتفاع العمود حوالي خمسة أمتار وعرضه حوالي ثلاثة أمتار. وهي تشير إلى حدود عرفات. ثم تجد الجبل الذي يحيط بالوادي ويغلقه على شكل قوس عظيم. وهذا جبل عرفات، وفي شماله لسان خارج إلى الغرب، يسمى جبل الرحمة، وفيه صخرة وقف عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وعليها واعظ يقف اليوم.

وفي هذا المكان من جبل عرفة، يقف جميع الحجاج، على اختلاف طوائفهم، يوم التاسع، وجزء من ليلة العاشر، مليئين بالتلبية والدعاء والتسبيح والتهليل قائلين: لا إله. إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

ثم ترى منظراً عجيباً؛ اجتمع الآلاف من الناس في هذا الجبل وما حوله بثيابهم البيضاء، واتحدوا في التوجه إلى الله على الرغم من اختلاف لغاتهم وألوانهم. وحدة الدين جمعتهم معًا، ووحدة الهدف توجهوا جميعًا إلى الله، هزوا الجبل بدعائهم ودعائهم، نسوا دنياهم، ونسوا أنفسهم، وتعلقت أرواحهم بربهم الملائكة الطاهرين. هذا يستغفر عما ارتكب، وهذا يندم على ما فاته، وهذا يعد الله بالطهارة الأبدية، وهذا يبكي تائبًا، وهذا يتمنى؛ كلهم متعلقون بربهم، على أمل افتتاح حياة جديدة. عمادها التقوى والإخلاص، ويتنقلون من نوع إلى آخر، يغنون: ها أنت يا الله، ها أنت، ويتلون آيات من القرآن الكريم في عظمة الله ووحدانيته.

باختصار، إن الناس غارقون في طوفان لا يستطيع قلم أن يصفه.

وبعد صلاة الظهر في ذلك اليوم يقوم خطيب عرفة فيصعد الجبل بجمله ويقف على الصخرة التي يقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلقي خطبة فيها يقوم بتعليم الناس مناسك الحج، وفيه يكثر من التلبية والأدعية، ويوجد إلى جانبه أشخاص ينقلون كلامه للناس، ويلوحون بالمناديل التي يدلون بها على التلبية، كما يلي: كل الناس له مع تلبيجتهم. دعواتهم متحدة، وشعور غريب يغمر الناس.

وهذا وضع يمكن للمسلمين الاستفادة منه من خلال جلب مكبرات الصوت وإعداد خطب عظيمة بلغات مختلفة. بما فيه من نصيحة للمسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وما يوقظ عزائمهم، ويحيي أملهم، ويوحد صفوفهم، ويقودهم إلى أفضل اتجاهات الحياة. يعد هذا الاجتماع فرصة عظيمة للمسلمين ذوي الرأي من مختلف الأعراق للالتقاء وتبادل وجهات النظر حول ما هو الأفضل لأممهم وإضاءة الطريق إلى مستقبلهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top