مقدمات الكتب.. مقدمة زكى نجيب محمود لكتاب المعقول واللا معقول فى تراثنا الفكرى

نواصل سلسلة مقدمات الكتب ونتوقف اليوم عند كتاب “المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري” للمفكر والفيلسوف زكي نجيب محمود. ماذا يقول عنه:

دكتور. يقول زكي نجيب محمود تحت عنوان “مقدمة”:

وفي كتابي “تجديد الفكر العربي” طرحت هذا السؤال: ما هو الطريق إلى الثقافة التي نعيشها اليوم، والتي تلتقي فيها ثقافتنا الموروثة بثقافة هذا العصر الذي نعيش فيه؟ على أساس أن هذا اللقاء بين الثقافتين لا يأتي تجاوراً لشيئين غير متوافقين، بل تفاعلاً تنسج فيه خيوط التراث مع خيوط العصر كنسج اللحمة والسداة؟ ثم حاولت أن أعطي إجابة على هذا السؤال، إذا لم تكن إجابة قاطعة، فهي على الأقل إجابة محتملة صحيحة. وربما، من بين أمور أخرى، يمكن أن يحفز التفكير، حتى يصححوه ويتحدثوا إليه. وكان جوابي إذن هو الأخذ بآراء كبار السن بعد تجريدهم من مشاكلهم الخاصة التي جعلتهم موضوعا للبحث. وذلك لأنه من المستبعد جداً -لطول المدة بيننا وبينهم- أن تكون مشاكل حياتنا اليوم هي نفسها مشاكلهم، وبالتالي لم يعد من المفيد بالنسبة لي أن أقتصر بحثي على مشاكلهم، التي نسينا موضوعاتها، لكنها يمكن أن تعود علينا بفائدة كبيرة، لجهة الحفاظ على كياننا ذو الخصائص العربية، وهو أن ننظر إلى الأشياء كما بدت، أو بمعنى آخر: أن نقرر حلولنا. لقد تم التعامل مع مشاكلنا بنفس المعايير التي حكموا بها على أنفسهم.

المعقول وغير المعقول

وقد أكدت في محاولتي أن النظرة العقلانية، رغم امتزاجها بالكثير من العناصر غير العقلانية، كان لها بعض الظهور عند آبائنا العرب القدماء. وهذا يعني أنهم كلما واجهوا مشكلة جماعية، فإنهم يسعون إلى حلها باستخدام أسلوب المنطق العقلاني للوصول إلى النتائج، ويكاد يكون ميلهم العاطفي غير العقلاني محصوراً في الحياة الخاصة للأفراد. لقد كانت لهم “حكمة” في طرق الحياة الاجتماعية – وما الحكمة إلا نظرة روحية مكثفة – ومازلنا إلى يومنا هذا نعود إلى حكمتهم هذه، وروائع ما قالوا عنها شعرا ونثرا، تعالوا إلى عالمنا لسان – مما حفظناه، وكأننا في كل مرة نتلفظ فيها بإحدى تلك الروائع، أسرجنا مصباحًا يناسب الوضع المظلم الذي يحيط بنا، حتى نقتاد إليه إلى طريق؛ نعم، بالإضافة إلى آرائهم المعقولة والمعقولة، كان لديهم شرود في الضمير، ولكن جانبًا من ذلك لا ينفي جانبًا آخر.

وبهذا الكتاب بين يديك، أردت أن أقف مع الأجداد – سواء في آرائهم العقلانية أو في خيالاتهم غير العقلانية – حتى أتمكن من الوقوف معهم في لقطات ألتقطها من حياتهم الثقافية. لنرى: ما نوع مشاكلهم الفكرية، وكيف بحثوا عن حلول لها، لكن عندما فعلت ذلك لم أحاول أن أعاصرهم وأقلد أرواحهم لأرى بأعينهم وأشعر بقلوبهم . بل اخترت لنفسي أن أحافظ على عصري وثقافتي، ثم أستمع إليهما وكأنني الزائر، جالساً أستمع إلى ما يدور حوله من نقاش، يبدي فيه رأيه فيما بعد. لنفسه ولمعاصريه يقبله ويرفضه.

قسمت الكتاب إلى قسمين: جعلت أحدهما لرحلتي على طريق العقل معهم، وجعلت الآخر لبعض ما رأيت فيهم من مخالف للعقل، ولجأت إلى ما ظنوا. كان أفضل من ذلك، وتعمدت جعل القسم الأول أكبر القسمين. بحيث أن العلاقة بين الحجمين هي في حد ذاتها دلالة على العلاقة التي أراها تحدث في حياتهم الواقعية بين ما وزنوه بميزان العقل وبين ما تركوه بسبب خطأ الضمير.

وفي رحلتي على طريق العقل استرشدت بمستويات الوعي في صعودها من البسيط إلى المركب، وهذه هي المراحل التي أشار إليها الغزالي عندما فسر آية النور: المشكاة، المصباح والزجاجة، وشجرة الزيتون هي بالنسبة له مستويات من الوعي، ترتفع وتتزايد في الوحي والاختراق، فاستخدمت بدوري هذه المراحل لرؤيتها، خمسة قرون من تاريخ الفكر العربي الشرق – من القرن السابع الميلادي إلى بداية القرن الثاني عشر – كما بدا لي أن السابع رأى الأشياء رؤية مشكاة، والثامن رآها رؤية مصباح، والتاسع والعاشر رآها رؤية مشكاة. رؤيا الزجاجة كأنها كوكب اللؤلؤ، ثم رآهم الحادي عشر رؤيا الشجرة المباركة تضيء بنفسها.

وذلك لأنني رأيت أهل القرن السابع وكأنهم يتعاملون مع شؤونهم بحدس طبيعي، وبدأ أهل القرن الثامن في وضع القواعد، ونهض أهل القرنين التاسع والعاشر من القواعد المتناثرة. إلى مبادئ شاملة شملت الشظايا في قبيلة واحدة، ثم جاءت الحادية عشرة بنظر الصوفية الدخيلة على الذات في الداخل؛ لرؤية الحقيقة مباشرة.

لقد اقترحت أيضًا لكل مرحلة من هذه المراحل سؤالًا مركزيًا يمكن للناس التفكير فيه واتخاذه والتصرف بناءً عليه. في المرحلة الأولى، كانت المشكلة الاجتماعية والسياسية في المقدمة. من أحق بالحكم؟ وكيف يكافأ الظالمون حتى يتحقق العدل كما أراد الله؟ وفي المرحلة الثانية كان السؤال الرئيسي: هل الأساس في مجال اللغة والأدب هو معايير يفرضها المنطق لتطبق على القدماء والحديثين، أم أن الأساس هو السوابق المشتقة من لغات القدماء؟ أتى. حتى نعتبرها نموذجا يقاس به الصواب والخطأ؟ وفي المرحلة الثالثة كان السؤال: هل ستكون الثقافة عربية خالصة، أم نرفدها بالروافد من كل أصقاع الأرض حتى تصبح ثقافة عالمية للإنسانية كشخص؟ وجاء القرن العاشر وبدأ يضم حصاد الفكر في وجهات نظر شاملة. وهذا هو حال الإنسان عندما يكتمل نضجه وتتسع آفاقه، وهنا يصل العقل إلى حده، وقد وصلت مرحلة أخيرة يقول فيها من يملكه للعقل: كفى! طريقنا من اليوم هو قلوب الصوفية.

أما الجزء الثاني من الكتاب ففيه نظرة مختصرة على الوجه الآخر للعملة، حتى لا نرى الحقيقة من جانب واحد. وإلى جانب الآراء العقلانية لأسلافنا، كانت هناك حالات رفضوا فيها أقوال العقل، ولجأوا إلى ما ينبض قلوبهم تارة، ويرضي خيالهم تارة أخرى. لقد بذلت قصارى جهدي لتحليل معنى مصطلح “غير معقول” حتى لا يتحول إلى سب وازدراء في أذهانهم، وهو أمر آخر ينبع دائمًا من جوهر طبيعتهم الإنسانية، وكل ما يهم هو أن أفعل ذلك فلا أجد هذا الجانب من الأولين جسرا يصلح لعبوره المتأخرين إذا أرادوا أن يسلكوا الطريق، واكتفيت بهذا الجانب من العبث بشكلين: الصوفية أحدهما، والسحر والتنجيم الثاني، ورأيت فيهما ما يكفي لتكتمل الصورة التي أردت أن أرسمها للقراء.

في هذا الكتاب أنا مثل مسافر في أرض غريبة، ينتهي به الأمر أحيانًا في هذا البلد وفي ذلك البلد، عندما يجد في الطريق شيئًا يلفت الأنظار ويستحق المشاهدة والسماع، وأنا مثل السائح في هذه الرحلة؛ أهم المعالم قد تغيب عن نظره؛ فهو غريب لا يعرف أصلاً أين المعالم البارزة إلا إذا قاده مرشد من السكان الأصليين ولكنني أستطيع أيضاً – مثل السائح الغريب – أن أرى شيئاً لا تراه عيون السكان الأصليين يرى؛ لأنه مألوف لديهم لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على رؤيته بشكل صحيح، ومن هنا لا أستبعد أن أكون قد أخطأت في ناحيتين: بمعنى إهمال معالم الطريق التي لا يجوز فلا يجوز. تجاهلها، وبمعنى التوقف أحياناً للنظر إلى ما لا يستحق التوقف من أجله، ومن الواضح أنه إذا أراد مسافر آخر أن يستبدل رؤيته للمنظار بـ بالمنظار، لكان قد رأى رؤية مختلفة، وكان سيتوصل إلى استنتاجات مختلفة عما رأيت، وهنا انتهى بي الأمر.

وإذا أرجو هذا الكتاب فإن خيره أعظم من شره، وحقه أعظم من إثمه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top