قبل عشر سنوات قضيتها أجنبيا في بلد يبعد عن وطني مئات الكيلومترات عندما بلغ ذلك الرفاهية، واجهت خيارين، أشدهما مرارة: إما أن أسافر بعيدا وأترك وطني، أو أبقى داخل حدود الوطن. الوطن وحيدًا، بعد أن تخلى كل من أحببت من حولي، فقررت وواصلت طريقي، مجبرًا على التخلي عن روحي. وعزيني حتى لا أكون عقبة في طريق من أحب.
ومرت سنوات مريرة كنت فيها العربي الذي أصر على التحدث بلغته الأم مع أناس لا يفهمون إلا بضعة أحرف لا تشكل جملة مفهومة. قضيت وقتي غريبا أرعى نجوم اليقين الذي اختفى مني مع رحيلي عن وطني العزيز، كثيرا ما كنت أصرخ في رعب وأقول: (لعل الأزمة تهدأ قريبا) لكن ذلك لم يحدث، وكنت أتوقع ما سوف يأتي ولن يأتي .
- الحلقة الـ 22 من مسلسل الحشاشين .. اعرف معنى المناظرة وفوائدها؟
- مناقشة رواية "الكشف عن تشيكوف المصري" بمكتبة البلد.. اعرف الموعد
- أفضل 100 كتاب في القرن الحادي والعشرين.. كل أطفال العمة هاجر
لجأت إلى عزلتي خوفاً من التبعات المكبوتة لتصرفات قلبي الساذج، الذي كانت جريمته الوحيدة هي السماح لفتاة تصغرني بعشرين عاماً أن تطأ قدمها حرمه المقدس، وهي جريمة أردت التكفير عنها. بسبب غيابي، ولكن ذلك لم يحدث أيضاً. كانت ابنة جارتنا والأخت الصغرى لصديقتي العزيزة فتاة، هي شرارة نشاط تدفعها السعادة، تولد طاقة إيجابية هائلة، معدية لكل من حولها، وليس لها أحد غير أنني اخترت ألا أكون معها ها. كنت أجدها معي دائمًا وتدعمني دون أن أطلبها، وسأظل أتذكر ذلك الإخلاص لها حتى آخر نفس يتردد في صدري، لكنني لن أقول ذلك علنًا أيضًا. أنت لا تعرف أبدا ..
بدأت المأساة عندما جاء أخي الصغير الذي كان في الخامسة والعشرين من عمره مبتسما بعد أن تخرج من الكلية وأصبح محاميا سره إلى أي مخلوق، يريدني أن أكون أول من يعلم بحبه لفتاة عاشت في المنزل المقابل لنا، والغريب أنها نفس الفتاة التي كانت سبباً في انزلاق قلبي إلى هاوية الحب الذي طالما استهنت به واستهزأت به من العشاق، تلك الفتاة مع من مشيت إلى نهايتنا المشتركة.
لم أكن أعرف ماذا أفعل أو ماذا أقول لأخي عندما مد يده بهاتفه حتى أتمكن من رؤية صورتها. كم تمنيت في تلك اللحظة أن لا أحبها، لكن للأسف كنت أعشقها بشدة، ولم يكن أمامي إلا أن ألزمها رغبة قلبي، فعلت بكل قسوتي تظاهرت بأنني أحبها. لها كما أحب أختي الصغيرة، وأما الحب والعاطفة، فإن قلبي يعشق امرأة أخرى في نفس عمري، وبدأت العمل الجاد لتحقيق رغبة أخي الصغير الذي من أجله كان الأخ الأكبر الذي لعب دور والده بعد وفاته وهو لا يزال في السابعة من عمره، وضعت مشاعري جانبا وفعلت كل ما هو ضروري من أجل زفاف أخي السعيد، عبرت بوابة الحزن في صقيع الغربة والوحدة ، بذلك الحب القاتل الذي انتهى بنهاية مفجعة.
- مديرة مكتبة يوسف إدريس: مقتنيات الراحل على حالتها ونقدم أنشطة دائمة
- أفضل 100 كتاب في القرن الحادي والعشرين.. كل أطفال العمة هاجر
كنت أبتسم دائمًا عندما يكتب لي أخي ويخبرني كيف سارت الأمور في حياتهم، وكاد قلبي يرقص فرحًا عندما أخبرني في إحدى رسائله أنه سمى ابنه الأكبر باسمي لأمي، التي لم يسبق لي التعرف على التكنولوجيا، أرسلت تحياتي وتحياتي على شكل رسالة ورقية بالبريد التقليدي، وأرفقت بها العديد من السندات المالية حتى لا تكون ضرورية لأخي الذي زادت التزاماته المالية مع تزايد عدد أبنائه، ورغم أن له محل إقامة ثابت. ومع ذلك، لم أتلق منها رسالة واحدة طوال سنوات عديدة. بل لم أتلق أي رسالة من وطني، إلا رسالة واحدة، رسالة ليس عليها توقيع، ولكنها تحمل أكثر من أي شيء آخر. عن شخصية من كتبها. كانت تحمل رائحة عطر ما زال يفوح في روحي، عطر المرأة الوحيدة التي أحبها قلبي، كانت نبرة صوتها معادية، وتلومني على صمتي الذي سرق. لها مني، فقالت:
__ “هل تتذكرين حبي”؟..
لا أعتقد ذلك، لكن عليك أن تعلم أنني الشخص الذي يشعر بمدى خسارتك وسقوطك في حفرة الخذلان أكثر من يعلم أن الألم الذي نحبه لا بد أن يصيبنا أيضاً مهما كان الشخص لئيماً. نحن نحب. لكنني لم أكن أعلم أن المعرفة شيء وأن التجربة شيء مختلف تمامًا، أعترف أنني أنتمي إلى تلك الفئة التي إذا أحببت يدوم حبها ولا يدوم… يتغير ولكنني مختلف تمامًا عن أي امرأة من تلك المجموعة. الأنثى التي إذا لم تستطع الفوز بقلب حبيبها تذهب إلى قبرها ومثواها الأخير وهي عذراء، فأنا لست مثلهم. وأنا لا أملك حتى نفس القدر من الشجاعة مثلهم. اخترت أن أهرب من فشلي بدلاً من أن أعيش. قلبي ممزق بسبب حب لا أستطيع أن أنساه، فريسة لتلك الذكريات المؤلمة. أعلم أنك لم تحبني ولكني أحببت تلك المرأة التي لم تحبك لن تستطيع الوصول إلى قلبها كما أحببتك ولكني لم أستطع الوصول إلى قلبك فما أقسى ثمن القدر.
لم أكن أعلم أن هذه الفتاة أعطتني قلبها. والحقيقة أنني لم أعرف ذلك حتى قرأت رسائل البكاء دون توقيع، وكأنها تبكي ودموع الغضب المكبوت تغطي وجهها خلال حفل زفافها، مما زادني حيرة وارتباكاً. كانت تلك آخر مرة رأيتها في الحياة الزوجية لأخي، ليس لدي أي طاقة. لأرى هذا الهدوء يختفي، ووجودي سيفعل حتما ما لا أريد.
وها أنا أعود مرة أخرى إلى وطني بعد سنوات من البؤس ولكني أشعر بحزن غامض وكأنه إعلان لشر يقترب، كنت محظوظاً بوجودي في المنزل الذي كان مليئاً بذكريات طفولتي وشبابي أخي. حجزت طاولة كبيرة في مطعم شهير، وذهبنا جميعاً إلى هناك، وعندما استأذن رافق أحد أبنائه إلى المرحاض، لم تومض نظرة الغضب التي خرجت من عينيها رغم الابتسامة المخفية عني. ينظر الإغماء إلى شفتيها قبل أن تميل إلى أذني وتهمس:
“هل يمكنك أن تكون صديقي، الشخص الذي لا صديق له؟”
ومرة أخرى أصابتني صدمة أقوى من تلك التي سبقتها منذ سنوات، ولم أجد ما أقوله لها. كيف يمكن للحبيبة أن تعود لتكون صديقة لمن أحبها؟ وحين قالت أن حبها دائم ولن يتغير رأيت أنه قدر لي أن أعيش غريبا وأموت غريبا في بلاد باردة لا تحتوي على دفء الحنان، لكي يسعد أخي وأبناؤه. حياة. في النعيم.
أفضل أن يجعلني أخي أبكي، وأندم على مصيري، وأتذكر أخيه الأكبر الذي ضحى بكل شيء ثمين من أجله، بدلاً من أن ألعن أخيه الذي عاد ودمر حياته غدراً. وها أنا أكتب هذه السطور وسفينة حياتي تبحر من جديد إلى غريب أصبح ملجأي من أنين الروح خوفا من السقوط في هاوية عميقة لا حل لها، وها أنا المنفى القسري …