أحمد حسن عوض يكتب: قبس محمود جمعة

قادني قدري المحظوظ بالأمس إلى حضور أمسية شعرية بعنوان “ثلاثة أجيال من الشعراء” استضافها صديقي الشاعر والمثقف النشط محمود جمعة، بمشاركة ممتازة وجهد ملحوظ من الشاعر د. شيماء عمارة.

وتألق معظم الشعراء الذين شاركوا في ذلك الحدث الشعري، وقدموا مختلف الأذواق الإبداعية، مع تنوع أجيال الشعراء، وتعدد ميولهم، واختلاف طرق التعبير عن تجاربهم الإبداعية وزوايا نظرتهم إلى الشعر. أنفسهم وعالم حياتهم في لحظتنا الحالية المرتبكة أو المنكوبة بالأزمات أو المهزومة.

صحيح أن هناك اختلافاً واضحاً في مستويات الشعراء الذين استمعت إليهم، وهذا بطبيعة الحال يعود إلى الخبرة والممارسة وامتلاك الأدوات وإيجاد صوت خاص وبصمة أسلوبية ووعي بدور الشعر هنا والآن، ولكن ما أقدره في ذلك الفعل – وإن اختلفت مستويات اختيار المشاركين – هو الدافع الثقافي والإنساني الذي يسعى إليه محمود جمعة بكل إخلاص وتجرد للاهتمام بالشعر والشعراء. لاستعادة صدارة المشهد الأدبي من جديد في ظل مناخ ثقافي واجتماعي متضائل انشغل فيه الناس في السعي وراء «الصورة المرئية» بكل مظاهرها البراقة، والتخلي عن «الكلمة الشعرية» بكل عمقها وعمقها الموروث. القدرة على الفعل والتثقيف وتنمية الوعي المعرفي وصقل الحس الجمالي.

لا شك أننا بحاجة للشعر في هذه الأيام الصعبة، كما نحتاج إلى الخبز والماء، وكذلك حاجتنا إلى ضمير حي، وضمير محترق، ووعي نقدي.

أعتقد أن محمود جمعة بروحه النارية وحماسه الذي لا ينضب للشعر وتشجيعه الدائم للشعراء وبحثه الدؤوب عن الموهوبين، قادر على تقديم مساهمة كبيرة في تحريك المياه الراكدة وإعطائها الحيوية والعنفوان المعطاء. . البحر الذي لا يتوقف، وخاصة الإسكندري الذي التقيت به في سياق مماثل الليلة الماضية.
ذهبت لحضور أمسية خاصة للشاعر محمود جمعة على كورنيش النيل بالتحرير برفقة صديقي الشاعر الكبير أحمد بخيت، الذي كان متحمساً لتجربة محمود جمعة في الشعر الفصحى والعامية.

ثم فوجئت عندما أفسح الشاعر الذي استضاف الأمسية المجال لأصدقائه الشعراء -الذين كانوا سيستمعون إليه- للمشاركة في «حدثه الخاص»!! من خلال قراءة العديد من قصائدهم.

وقتها لفت انتباهي هذا الأمر، وأدركت أنني أمام شاعر وشخص آخر تخلى بكل إرادته ونزعته الإيثارية عن نرجسية الشعراء وأنانيتهم، عندما نجد أنهم عكس ذلك. ما فعله محمود، حيث نراهم يشاركون في “الأمسيات الجماعية” ولا يهتمون حتى بالاستماع إلى زملائهم الشعراء وهم يلقون قصائدهم في الأمسية نفسها.
بل يخرجون للتدخين في الممرات والدردشة خارج القاعات، ولا يسمح لهم بالعودة مساءً بعد انتهائهم من قراءة قصائدهم هناك.
قبس محمود جمعة، أو الدرس الشعري الأول الذي يجب على الشعراء أن يتعلموه -قبل أن يشرعوا في الكتابة- هو التوجه إلى الآخر في إنسانيتهم، بقدر ما يحيطون بتجاربهم الفردية في قصائدهم.
ولذلك أجد نفسي مضطرا إلى أن أحيي محمود جمعة الذي يستعد الآن لإطلاق مؤسسة قبس التي ستهتم بالشعر والإبداع والثقافة، وأنصحه بالالتزام بهذا العمل الثقافي النبيل وعدم التراجع عن المضي قدما. معها رغم صعوبة الطريق الذي يتطلب الحياد والنزاهة والتضحية بالوقت والجهد والمال.
وأرجو ألا يشعر بأنه مجبر على تكرار مقولة نيتشه على لسان زرادشت: “نعم يا زارا، لكن النار التي كانت في صدرك لم تكن كافية لتذيب الثلج الذي كان في صدورهم”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top