في العاصمة السويدية ستوكهولم، وتحديداً في عام 1973، قام جان إريك أولسون بالسطو على بنك كريديت بانكن في تلك المدينة، حيث احتجز أربعة موظفين، انضم إليه فيما بعد أحد زملائه في السجن، وبعد ستة أيام، مع انتهاء ذلك الاحتجاز، . وبدا أن المختطفين طوروا علاقة إيجابية مع هذين الخاطفين وأبدوا تعاطفا كبيرا معهم رغم الأسر والعنف الذي تعرضوا له. لقد شهدوا ضد اللصوص في المحكمة وقاموا بجمع الأموال للدفاع عنهم. وتم تفسير رد الفعل العاطفي هذا حينها على أنه نتيجة للصدمة النفسية التي دفعت الضحايا إلى تنمية مشاعر إيجابية تجاه آسريهم، على الرغم من تعرضهم للسجن والأذى النفسي، ومن هذه الحادثة استمد علماء النفس مصطلح “متلازمة ستوكهولم”. لوصف هذه الظاهرة النفسية الفريدة. ومن هذا المنطلق يمكن أن ننظر إلى العرض المسرحي “الحادثة”، مع الفنانة رنا خالد، من إخراج محمد الجندي، والمأخوذ عن نص يحمل نفس الاسم، للكاتب الكبير لينين الرملي، والذي تم عرضه مؤخرًا عُرض على خشبة مسرح قصر ثقافة الزقازيق، ضمن المهرجان الإقليمي لعروض نوادي المسرح. هذا هو النص الذي ألهم لينين من رواية “جامع الفراشة” لجون فاولز. تدور أحداث المسلسل حول شخصية (عاصم)، وهو مريض نفسي يعاني من اضطراب داخلي عميق يتناقض مع مظهره الهادئ. ويعكس العمل كيف يمكن للعزلة أن تغذي غروراً متضخماً إلى حد الجنون، مما يجعل عاصم أسيراً لرغباته الأنانية المدفوعة بشوقه المفرط للحب والجمال. وتتجلى هذه النزعة المرضية في اختطافه لفتاة تدعى (زهرة). موظفة في شركة خاصة، ويجبرها على البقاء معه في… مكان مهجور وسط الصحراء، في محاولة يائسة لفرض مفهومه المشوه عن الحب.
لكن الصراع في هذا العمل لا يقتصر على الفعل القسري الذي يمارسه (عاصم)، بل يتعدى ذلك إلى انتقاد رؤية “الحب” الأناني المتمثل في الرغبة في التملك والسيطرة. لكن زهرة ترفض هذا المنطق العبثي وتحاول التحرر من سجنها، قبل أن تظهر تدريجيا تعاطفا غير متوقع معه، في إشارة واضحة إلى ظاهرة “متلازمة ستوكهولم”، التي تعكس أيضا طابعا سيزيفيا، وإن كانت تبدو أقل مأساوية مقارنة بها. إلى العقاب الأبدي في القصة اليونانية.
ورغم جاذبية العرض النفسي الذي يقدمه العرض، إلا أنه يفتقر إلى معالجة أعمق لعلاقة عاصم بالمجتمع وأسباب غربته، ويقتصر على إشارات عابرة إلى تأثير الرأسمالية على الإنسان المعاصر الذي يبتلعه، فرديته، ويمزقه من روابطه الإنسانية، بطريقة لا يمكن تفسيرها بالعداء للطبيعة البشرية وحدها. بل يتطلب تفكيكا شاملا لمنظومة القيم الاجتماعية والثقافية التي حولت الحب من شراكة إنسانية مبنية على الاحترام والتفاهم إلى أداة للسيطرة والسيطرة.
- هل أشعلت أبواق توت عنخ آمون الحرب العالمية الثانية؟.. صور
- مقتنيات المتحف المصري.. آثار من الحياة اليومية تعود لعصر ما قبل الأسرات
واستوحت «الجندي» في عرضها رؤيتها من مجموعة واسعة من المصادر، مثل النص الرملي للينين، وفيلم ويليام وايلر «الجامع» (1965) المستوحى من رواية «فاولز» المذكورة، ومسرحية «الجامع». “الحادثة المجنونة” (1993) التي أخرجها، بالإضافة إلى استعارات رمزية من قصص مثل “الجميلة والوحش” و”بيجماليون”، الأمر الذي يثير أيضاً تساؤلات حول أصالة المعالجة ومن إخلاصه للحبكة الأساسية للنص الأصلي، سعى “الجندي” إلى إضافة أبعاد فلسفية جديدة تخدم رؤيته الدرامية، وتستكشف تعقيدات النفس الإنسانية ومفهوم الحب، وساهمت في أبعاد العرض كعرض مسرحي. في مجمله يميل إلى تقديم فكرة فلسفية مجسدة، ورغم أن “الجندي” مستوحى من مفهوم “متلازمة ستوكهولم”، إلا أن العمل يتجاوز معالجة سطحية لهذه الظاهرة لمحاولة التعمق في أبعادها العاطفية والاجتماعية الأكثر تعقيدا. وبينما يقدم العرض فكرة الحب كجريمة مبنية على الإكراه والطغيان، ويتناول سؤالا فلسفيا مهما حول إمكانية نشوء الحب دون حرية، يبدو أن المعالجة المقترحة تصور أيضا واقعا يتسم بالقسوة والسيطرة عليه. بالهيمنة الاستبدادية التي تجعل من الحب نفسه أداة للسيطرة، وليس تعبيراً عن الحرية أو العاطفة الصرفة. فالحب هنا ليس مشاعر فطرية فحسب، بل هو صراع إنساني داخلي بين طبيعته الحرة وحدود الطبيعة. خارج عليه. ويربط العرض الدرامي أيضًا بين مفهوم الحب والقوة، ويظهر كيف يمكن للسلطة أن تفسد حتى أكثر المشاعر إنسانية، مثل الحب، من خلال فرض قواعد وميول تعيق التعبير الحر عن المشاعر. وفي ضوء هذا الطرح يصبح الحب مظهرا من مظاهر الصراع بين الحرية الفردية والرقابة الاجتماعية التي تعيد صياغة المشاعر لتناسب أنماطها. النقطة التي حاول العرض الإجابة عليها هي طبيعة الحب كمسألة بسيطة ومعقدة في نفس الوقت. الرمزية مع الواقع الحديث، وتحول القصة من فضاء الرمزية إلى الاشتباك مع خصائص… الواقع المعاصر، والاصطدام بقضايا تنتمي إلى الحاضر، مثل قضية “العروس الإسماعيلية” أو جريمة القتل “نايرة أشرف” التي قُتلت على يد مريضة عقلية بسبب رفضها الزواج منه، والتي بالصدفة جئت على بعد أمتار قليلة من موقع مسرح الزقازيق، وهو مسرح حديث تقديم رؤية لتحرير المرأة، بهدف إنصافها ورفع الظلم عنها ومنحها حقوقها الاقتصادية والاجتماعية دون تعارض مع الأديان أو العادات، وكأن العرض يريد أن يقول صراحة أن العاطفة هي التي تحكم وليس العاطفة. رغبة التملك بالقوة، لأن العاطفة تنبع من القلب، ولا تخدع. وكان بطلا المسلسل، رنا خالد وعمر وفيق، معقدين. وكلاهما أتقنا الانتقال من شعور وعاطفة إلى أخرى بشكل جيد، ودور الشخصية وتقديمها، مما يعكس التنوع في الأداء الدرامي. لكن رنا خالد كانت الأكثر إثارة للإعجاب بين العناصر التمثيلية، إذ تمكنت من استخدام كافة أدواتها ووسائلها وآليات التمثيل لديها. لقد برعت في التناغم التعبيري والأدائي للحركات والإيماءات والإيماءات الجسدية، مع مزيج من المشاعر. والصوت والعاطفة، واعتمدت على تعابير الوجه والأداء، واستطاعت التبديل بين عاطفة وأخرى، سواء بتوسيع العينين أو رفع الحاجبين أو الصراخ بغضب، لتخلق صورة واقعية تنعكس. امرأة العصر. تتعرض للقمع تحت وطأة الرجولة والتقاليد الاستبدادية التي تحد من حقوقها كمساوية للرجل، لكنها تناضل من أجل حريتها واستقلالها الاجتماعي الكامل. وتميز الأداء الحركي لرنا خالد بالانتقال المتناغم بين المراحل المختلفة وبين وتيرة وأخرى. وفي بداية الأحداث تحركت بشكل عشوائي يمينًا ويسارًا في محاولة للهروب، ثم انتقلت إلى الثبات والوقوف، واستدارت تدريجيًا. بحركة بطيئة مع خطوط متعرجة، بينما تتراجع للخلف في بعض النقاط. في بعض الأحيان تشعر بالخوف والتوتر. إنه يعكس تمامًا طبيعة الشخصية التي تلعبها. وقد ترجم العرض لغة جسد المهزوم ببراعة، وسلط الضوء على ضعف الشخصية وانهيارها في مواجهة قبضة عاصم والقيود التي يعيشها في سجنه. وقدم الديكور أسلوباً منطقياً، حيث أحاط السجان ضحيته في دائرة أحاطت بها بالكامل، وكأن الحياة نفسها دائرة مغلقة لا يمكن الهروب منها، لينقل أيضاً فكرة الكابوس الدائم وهو اختيار رمزي قوي، يعكس حالة الهروب التي تعيشها الشخصيات في تجسيد واضح ومؤثر للقيود المجتمعية. لكن هذه القيود سرعان ما تتصدع في ظل مقاومة زهرة المستمرة للإفلات من قبضته، وهو ما تنجح رنا خالد في تجسيده بوعي حسي وجمالي يتناسب مع طبيعة الشخصية الدرامية. وفي النهاية، تنهار جدران هذا السجن، في إشارة رمزية قوية إلى سقوط النظام المجتمعي، مهما كان قويا وجبارا. كما نجح المخرج في صياغة رؤيته الدرامية من خلال جماليات الصورة، حيث لعبت الإضاءة والموسيقى دوراً فعالاً في تعزيز اللحظات العاطفية بين الاختطاف ومحاولة فرض الحب، مما ساهم في تعميق التأثير الدرامي على الفيلم. متلقي. وفي النهاية نجح العرض في تقديم معالجة بصرية درامية متقنة لواحدة من أهم قضايا عصرنا. استطاع العرض أن يلخص الكثير من القيم والمشاعر الإنسانية، معتمداً على تقنيات العمل الدرامية المعروفة، حيث قدم رؤى فلسفية تتوافق مع أفكار لينين الرملي، تتشابك مع مفهوم “متلازمة ستوكهولم”، وعالجتها برؤية حديثة تتفاعل مع الواقع المعيش. ولم يكتف العرض بذلك، بل استمر في الانخراط في السياق العام، واضعاً المتلقي في قلب التجربة، لينخرط بوعي في أحداثها، سواء بالقوة أو الاختيار، ومراجعة كل ما هو شخصي وعامة، وإعادة النظر. المعاني التي سلبت العالم جزءًا من احتياطيه العاطفي العميق.