قراءة في ديوان.. "موج طائش في الرمل" يضم 29 قصيدة لـ محمد البريكى

وقع الشاعر محمد عبدالله البريكي مدير بيت الشعر في الشارقة ديوانه الشعري الأخير “موج هائم في الرمال” إلى جانب ديوانه الشعري “الليل سيخرج من باب المقهى” “الطبعة الثانية”، و”مدن في مرايا السحاب”، صادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر.

موجة ضائعة في الرمال

وتضمن ديوانه الأخير “موجة ضائعة في الرمال” مجموعة من القصائد العمودية والمقفاة التي تناولت العديد من الهموم والقضايا التي تؤثر وتحرك الذات في فضاءات المدن، مقاربة الألم والمعاناة الإنسانية، من خلال الرمزية باعتبارها يعني الوصول إلى مدن مليئة بالشعر ودهشته منذ إهدائه وهو إنساني، ويخشى عليهم خوف الأم على ابنها من أن يتأذى، ويدعو أن يتم التعامل مع كلماته بلطف. يصبح أنها تشملهم. والرموش لا تدوسها الأحذية، في صورة تحول الحروف إلى رمل، مما يدل على ارتباطه بالأرض التي هي أساس الأصل والهدف الأسمى للبقاء المؤقت، كما يقول:

حروف تطفو على الرمال
لا تضع الأحذية عليه
املأها بهداياك
واتركها مع سلة مشاعرك
إنها أغنية.

تمتد المجموعة على حوالي 140 صفحة متوسطة الطول، وتجمع بين تسعة وعشرين قصيدة تتحرك بسلاسة بين العمودي والحقيبة، مما يفتح النوافذ والبوابات للقارئ لينغمس في عوالم شعرية مفعمة بالحيوية. يبدأ الشاعر هذا العمل بإهداء عميق يضفي على الكلمة بعدا إنسانيا حيا، طالبا أن تعانقها بحنان الرموش لا بقسوة الأقدام، فتكون الكلمة في شعره جسرا يربط الروح بآفاق الشعور ومرآة تعكس آلام الإنسان وأفراحه. وبالتالي فإن الإهداء يشكل مقدمة فريدة من نوعها تعد القارئ للانغماس في عمق التجربة الشعرية التي يحملها المجلد.

وقد أظهر الشاعر محمد عبدالله البريكي في قصيدته “في طريق عرفات” رحلة روحية تعبر عن الصبر والمشقة التي يتحملها الإنسان في طريقه إلى اللقاء الروحي. تفتتح هذه القصيدة ديوان “موجة لا تهدأ في الرمال” وكأنها دعوة للقارئ للتأمل في مسيرة الحياة وتحدياتها مجسدة في الصور الرمزية المؤثرة التي تعكس كفاح الذات وأملها في تحقيقها. الطهارة والتطهير، حيث يقول:

كمثل الجائع الذي لا يجد إلا حنكًا
يختبئ في الصخر ولا يبيع مجده.

ومضى الليل.. ولم يعلم به أحد.
ودموعه رغم طول الليل لم تعرفه

كان صباح اليوم التالي مظلمًا
وخلال ليل الأمل هدأ ندمها

يوفر الحبر ميزة للورق
أن نرسم فكرة الأنف عليه

هيّأ الأجواء والأفكار ثم بدأ
يكشف الزمن، ولكن ما يكشفه مخفي

فقال: لعل الظلمات تنير بالنور
حتى يتمكن الجائع والمهموم من مغادرة ملجأه

ويرسم الشاعر محمد عبدالله البريكي صورة تمتزج فيها معاناة الروح بعزيمة لا تنكسر. صخرة أنارت أبيات شعره رؤية عميقة مزجت بين الصبر والأمل، ورسم لنا صورة امتزجت فيها مصاعب النفس، ثم جاءت قصيدة “قطيع على الشاطئ” التي ينسج فيها الشاعر صور الطبيعة والحياة حيث يتناغم الموج مع السحاب مثل قلادة ملفوفة حول الأعناق، ويتمايل السرب مع الريح بلطف مثل رقصة الموجة الخجولة.

وقصيدة المجموعة “موجة شاردة في الرمال” التي كتبها الشاعر خلال فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب الذي اختتم فعالياته في 17 نوفمبر الماضي، تظهر أمامنا وتحمل بين سطورها رحلة من الكلمات العميقة التي تحرك . بين مشاعر الحب والألم، إذ يحمل فيه نبضات شوق وألم تجري فيه… صور شعرية تلامس القلوب، إذ تتموج القصيدة كالموج بين حروفها. التجول في الرمال يحمل في كل نبضة منه حزناً لا نهاية له، لكنه يحاكي أيضاً الفرح العذب الذي يبدو كنسيم الحياة الطيبة. وأوضح ذلك في قوله:

ليس لدي أي علم بالأرض ودورانها
وعن دورانه وطيرانه

أنا أعرف فقط أنك طائر
غنى لفرحنا على أغصانه

لذلك تحرك بخفة على مر السنين
مثل القوس عندما يتعلق الأمر بالكمان

أو كالفراشة عندما تحتضن زهرة
وتراقصت روائح الشوق في حديقتها

الشاعر لا يعرف شيئا عن دوران الأرض أو طيرانها. يكتفي بعلم واحد، وهو وجوده، وهو الحب، الذي يتجاوز الزمان والمكان، مثل الطير الذي يغرد على أغصان الحياة أو الفراشة. يرقص على زهرة الحب فيتنقل بين مشاعر الحزن والحب في تناغم رقيق يعكس الألم والأمل في القلب، ويذوب الشاعر في القهوة العكرة حيث تنبض الآلام في طياته. بكاء الأطفال ومعاناة العائلات، لكنه رغم الألم ينشر البسمة على الوجوه الخائفة، مناديا بجمال الحنان وسط الحزن، ويتنقل بين المدن العربية المدمرة بغداد والشام والأندلس يهمس في أذن التاريخ، ويحكي مآسي الزمن في صمت عميق، فيقول:
الغائب قد استهلك الزمن وقته
لقد رأى قريته بمثابة الحنين إلى عصره

رأت إحدى الأمهات وجهها يتمزق
تتساقط الدموع والشوق بين ذراعيها

من يجد روحاً لم تقابل وطنها قط
فأخذت تبكي على أوطانها

من حزن الأندلس على غرناطة
تدفقت الدموع أسفل جفنيها

من وجه دجلة وهو يبحث عن ماء المطر
بغداد تموت من احزانها

مما حدث للشام ومجدها
لرؤيته مصلوباً على أسوارها

من أي موجة شاردة في البحر، أوه
T للرمل الذي يذوب في ضفافه

وفي هذا السياق تصبح قصيدته “منسن في الهولوكوست” مرآة تعكس معاناة الوعي الجمعي الغارق في متاهة الضياع. في هذا العمل الجديد، يكشف الشاعر عن رؤيته العميقة لحالة الإنسان التي تتأرجح بين الحزن والواقع المظلم، حيث يواجه مجتمع مليء بالمفارقات والمجهول مصيره المحتوم. هذه القصيدة بالرمزية والتشبيه تصور التجمع على أنه رحلة إلى عالم الأوهام، حيث تتسلل قوى خفية تقود الناس إلى الهلاك، مثل قطيع يُقاد بغير قصد إلى المجهول، ويتجلى ذلك في قوله:
إذا كان القلب مغلقا يا صديقي
ستصبح السلسلة زجاجة مغلقة
ترى.. كلما اتسع الشارع
وكانت أضلاعهم مزدحمة فيه
إنها ترتدي جمجمة للعبور
وأخرجوا المحرقة إلى الشارع

كيف تعمل الحشود دون وعيها؟
هل يقودها عبقري غير مرئي؟
الوثنيين أرى الطقس
ويمر تحت القباب المرصعة بالحجر.

وإذ يستعرض الشاعر ملامح وتجارب حياته المختلفة في قصائده، تتنوع الصور والمفاهيم وتنتظم في انسياب فلسفي عميق، ينتقل عبر الزمن بين الحكمة والعلم. وفي هذا السياق تظهر قصيدة “تجارب” كحلقة وصل بين التجارب الإنسانية العميقة والفكر الفلسفي، وتجسد فلسفة الشاعر في الحياة، إذ يستعرض المفاهيم الإنسانية العميقة المرتبطة بالمعرفة والتعلم والوجود، ويظهر ذلك واضحا في قصيدته. قائلا:
إيماننا ليس نهاية ما نراه
التجربة الإنسانية أجمل مع الصقل

لقد زرعت العديد من الخطوط في الحياة
اشتريت بعضًا منه وبعضًا منه في مجالي

وما هو التفكير المكتسب من تصرفات الآخرين
تعلمت أن المثل يعطي المثل

وإذا اختلطت نخلة القشطة بالمن
فالأفضل له أن يكون له صفة الجشع

ومن لديه رأي يعتبره مقدسا
ولا يجوز له أن يبدي أو يبدي رأياً

من يأخذ النصيحة من الآخرين ينأى بنفسه
ومن تعلم عن النفس جعلته بائسا في الوحل

كبار السن ليسوا محظوظين
فإن لم يكن من علمه، فهو في الحقيقة علم

وفي هذه الأبيات يقدم الشاعر من خلال تنقلاته بين تجاربه الشخصية وفلسفته في الحياة مزيجاً من الحكمة المستمدة من مسيرته وتراث أجداده، ليظهر في كل سطر نضجاً فكرياً وعاطفياً يشهد على ‘ رحلة طويلة من التأمل والنضج العقلي والروحي جمعت القصيدة بين النصيحة والتوجيه والحكمة المبنية على … الفهم العميق للمجتمع والزمن والعلاقات الإنسانية التي يسعى الشاعر إلى تعلمها من الحياة مع زيادة الوعي والحكمة. المرونة العقلية.
وفي قصيدة «الشعر» يذهب البريكي إلى أفق بعيد يستعرض من خلاله علاقة الإنسان بالشعر ومكانته في سياق الزمان والحياة. ويصور الشعر في هذه الأبيات كأنه كائن حي يتنقل بين الأزمنة والأمكنة، وكلماته توقد الذكريات وتحرك المشاعر، فيقول:
ويعتبرونها مغالطة قديمة ومن قال ذلك
على جبل يبكي وتبكي نفوسه

وها هو في القاعات يدلي بشهادته
ومن وجع الألحان يغنون حائرين

فإذا نزل إلى الأرض وعكّر رمله
تقول لنا الأحياء: هذه بيوته

لم نكن طائشين أو مغامرين
السفر بعيدا عنا لم يزعجه

اتخذ وضعية مستقيمة ولم يتراخى
ولم تتزعزع مفاصله في الريح

فالشعر تجسيد عميق للروح وتفاصيلها. ولا يقتصر الأمر على الكلمات فحسب، بل يشمل المقاومة والتحدي والجمال الأبدي في كل زمان ومكان، ورفض الاختفاء أو النسيان.

مجموعة محمد البريكي تشهد على شاعر تنسج رؤيته في لوحات فنية تنبض بالجمال والاحترافية، حيث تنسج كلماته بعناية وتروى، مع مراعاة اقتصاد اللغة في اختياراته، وصور محيطه تقليد بكل دقة وإبداع، تتخلل قصائده الشعور الصادق النابع من أعماق قلبه، والذي يعكس غربة الشاعر في عالم متغير، ورحلة لا تنقطع، بينما يلتقي بمختلف الأماكن التي تركت آثاراً عميقة. ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top