كانت ذات جسم نحيل داكن الشعر، وفي عينيها بريق جذاب، وكانت جبهتها تضفي شعوراً بالراحة والطمأنينة، وكانت ذراعيها وساقيها رقيقتين وقويتين، وكان شعرها الأشعث يبدو جامحاً عندما أيقظتها أمها منها. تنام في الصباح الباكر، تتحول ملامحها الطفولية إلى تجاعيد على وجهها، كأن لها أنياباً، تريد أن تفترس أحداً بها، ترفع يديها بعنف، تكرر كلاماً لا معنى له، لكن يدل على ذلك. في ضيق شديد، تمسك والدتها بيديها، تخرجها خارج المنزل، في الهواء حيث توقظها ريحها، تسكب عليها الماء، لتغسل وجهها، تصبه بكثرة، تجفف وجهها على حافة ملابسها القديمة ترتدي، تقف نصف نائمة ونصف مستيقظة، تفتح عينيها الضيقتين بصعوبة، تمسك أمها من شعرها وتحاول أن تلتقط شعره، وتربطه بشريط، وتأخذ الصرة التي تحتوي على طعام لأبيها وإخوتها، تصف الطريق إليها، وتؤكده لئلا تضل، التفتت وعبست في وجه أمها، وأخذت ما أعطتها لها، ومضت تغطى الأرض بحذائها البالي، وتلوث الهواء خلفها وتفسد الهواء. كان الطريق طويلاً، بمحاذاة الترع والمحاصيل، وربما أخافها كلب على الطريق، فوقفت طويلاً تنتظر رجلاً عجوزاً يحتمي من نباح الكلب. ثم تنتقل إلى مستقبلها الذي تجده مرعباً ومرعباً.
- هل تراجع أدب الرعب في 2024؟
- بيت السنارى يقدم ندوة عن الإرث الخالد للمخرج الراحل شادى عبد السلام
- "غرائب الأخبار عن شرق أفريقيا وزنجبار" أحد كتب أدب الرحلات.. اعرف محتواه
وأثناء سيرها، ركلت الحصى الصغيرة بقدميها النحيلتين، وضربتهما بقوة، كما لو أنها تعرضت لحادث وألقتهما في الماء. الخطوات الصغيرة لقدميها الصغيرتين جعلتها تشعر أن الطريق طويل ولا نهاية له، وكلما قطعت جزءًا كبيرًا من الطريق، بدا لها ذلك… اقتربي، ستدركين أن الطريق لا يزال طويلًا. ، وأن هدف تحقيقه لا يزال بعيدًا، وكل يوم يتزايد أن رعاية الأغنام تحتاج إلى صبر وفكر كبير، وليس هناك مكان محدد. يسافر.
وفي بعض الأيام الأولى لرحيلها، كانت تنطلق في اليوم التالي إلى نفس المكان، ثم تتجول، ويأتي أخوها ويمشي معها ميلًا آخر أو ميلين آخرين، وهو ما اعتادت عليه كل يوم أكثر صعوبة. إذا كان الذي قبل ما فعلته هو صورة مصغرة لمستقبلها، وكلما فكرت في الأمل أصابها إحباط شديد وصرخت بحزنها الذي لا ينتهي أكثر من مرة، وعندما صرخت، كانت أول من صرخت. تأكدت من عدم سماع أحد لها، وأنهم على مسافة كافية، بحيث إذا صرخت لن يسمعها إنس أو جن مهما كان الأمر، ورغم ما عانت منه في الطريق، فهل الأمر أسهل منها؟ تجد عند وصولها في جمع الحطب وإشعال النار، لتحضير الشاي لأبيها وأخيها، تأخذ الحطب وتأخذه من البرية، إذا صادفتها قطعة خشب. وفي الطريق التقطت شيئًا مناسبًا لهذا الغرض وحملته معها، وهي لا تزال تمشي بقدميها على الحجارة الصغيرة و. رميهم في مياه القناة.
- بيت السنارى يقدم ندوة عن الإرث الخالد للمخرج الراحل شادى عبد السلام
- الصوت يؤثر فى سوق النشر.. تحميل الكتب المسموعة يرتفع 17% فى بريطانيا
- هل تراجع أدب الرعب في 2024؟
وعندما وصلت إلى المكان بالأمس نسيت ما قالته لها والدتها. جلست على حافة القناة وانتظرت وصول شقيقها، حتى لا تضيع، كانت لا تزال صغيرة. وضعت علبة الطعام بجانبها وبدأت في رمي الحصى. لقد استمتعت برؤية الدوائر التي يصنعها الطوب عندما يسقط في الماء. تبدأ الدائرة بنقطة صغيرة على سطح الماء، ثم تتسع. ويتسع حتى يصل إلى نهايته. في النهاية ينتحر من الفضاء المحيط به. كانت تحرر آلاف النقاط الصغيرة، دون أن تشعر بالملل، حظيت بمتعة غريبة، تمنت لو أنها أصبحت نقطة، أيضاً مما يحيط بها تكبر، تمر الأيام بصعوبة، ناهيك عن الشهور والسنين. الماء، تبتسم لنفسها، لكنها تشعر أن الابتسامة صفراء باهتة، لا معنى لها، كل شيء يكلف الابتسامة المريضة جزءًا صغيرًا منه، نعيش بعيدًا عن أهل البلدة في مكان منعزل عن الناس، وليس لدينا أي جزء منهم معرفة، أو تجارب اختلاط تكشف لنا نواياها ليست في داخلنا، فلا تجارب، ولا شيء سوى الفضاء، والهواء الفارغ، والصقيع في الشتاء والحرارة. في الصيف لا يوجد بيننا سوى العمل، ولا طفولة، ولا شباب، ولا حتى شيخوخة، ولا إحساس بالإنسانية ينقذنا مما نحن فيه، من الفراغ، من اللامعنى.
وبعد دقائق ركض شقيقها في الطريق والتقى بها حتى لا تضيع، وذهب إلى القطيع، وأخذ والدها المنتظر ما في يدها، وفتح الصرة وأخرج وعاء الجبن. لإشعال النار لإعداد الشاي، التقطت بعضًا منه، وكان صوت شقيقها يتحدث أعلى من صوتها، وهو يرشدها. ولجمع الحطب الكبير والجاف، عادت إلى الحفر في الأرض وجمع الحطب. أربكها صوت أخيها بالخوف من أن يضع يده عليها في المرة القادمة. لم تكن معتادة على ضربه بعد، قالت لنفسها، أتمنى فقط ألا يغضب والدي لأن لكماته قطعة خشب صلبة. حملتها إلى أخيها فأعطاني المعدات وجرها. وأشار لي بأن أملأه، وهو حوض ماء قريب منا.
- "غرائب الأخبار عن شرق أفريقيا وزنجبار" أحد كتب أدب الرحلات.. اعرف محتواه
- اتكلم عربى.. أحمد شوقي يتغزل فى لغة الضاد
ذهبت لأحمله على رأسي الصغير، وفي يدي الجركن حول الحوض، يغسلون فيه أوانيهم وثيابهم، ومنهم من حمل بساطاً نصف رجله في الماء. ابتسمت لي إحداهن، ثم أشارت لي بالجلوس بجانبها. غسلت معي المدفأة والثلاجة والكوبين دون أن تقول شيئًا، ابتسمت وابتسمت لي أحببتها دون أن أعرفها. لم أسألها عن اسمها، وهل عرفتني بأنني كنت صغيرا على أن تلهمني. فنظر إلي أخي متعجبا من نظافة المعدات الموجودة على تلك المرأة التي أخذتها مني وفعلت ما يلزم. كان والدي وأخي يأكلان: “هل يجب أن أعود إلى المنزل؟”.
وضعت بعض الحطب على النار، وشاهدت الشاي. حملت بقايا الطعام منهم في الصرة، وحملت حقيبتي وركضت إلى المدرسة. فتحت يدي ولقيت عودين لأنه تأخر. كان هذا المعلم الأصلع يقف دائمًا أمام المدرسة، ليضربهم ويهينهم ويدوسهم بقدمه، بعد أن أسقط عصاه. تلتهب ظهورنا به. نراها، فيقع الخوف في قلوبنا، كلما ذكر الشيطان، لم يفكر ذهني في صورة أفظع من هذا القس الأصلع، بفكيه البارزين ولسانه. كفاكم سباً لآبائنا وأجدادنا، واليوم المشؤوم الذي جئنا فيه إلى هذا الدين، وحظنا السيئ، وأغبى ما ولدنا في عصر هذا الأستاذ.
ورأيت كثيرين ممن سبقونا في الصف يتسلقون الجدار هرباً من هذا الشيطان، وكنا جميعاً نشعر بالرعب كلما تذكرنا أننا في يوم من الأيام سنكون في أحد الفصول الدراسية، الذي نقف عليه. دخلت المدرسة ووقفت في نهاية الصف. يبدأ الطابور بالأولاد وينتهي بأيدي البنات الأخرى، وتبدأ الطبلة بالقرع، ويمشي الطلاب بطريقة منظمة. كانت الفتيات يتجنبن الوقوف بجانبي، لا. أعرف لماذا؟ لكن كان علي دائمًا العودة إلى نهاية الفصل.
- الصوت يؤثر فى سوق النشر.. تحميل الكتب المسموعة يرتفع 17% فى بريطانيا
- هل تراجع أدب الرعب في 2024؟
- كتب عن النادي الأهلي من وحي مباراة أبطال أفريقيا
كانت حقيبتي مصنوعة من القماش، ووضعت لي أمي فيها قطعة خبز وقطعة جبن في كيس صغير. لم يكن معي مصروف يومي، لكنني كنت أكتفي بما أعدته لي أمي، جلست وحدي، في مكان منعزل نادرا ما يتغير، تمددت على الأرض وأخرجت طعامي. آخذها وزجاجة الماء، ويبدو أن مكانها الصحيح هو في سلة المهملات، لكنني تعودت على ذلك. أنه حتى جلست في الفصل كان في آخر صف البنات، وكأنني لا أملك الحق في شيء، وكأنني أتيت إلى هذه الدنيا رغماً عن الجميع يعاملونني وكأنني مفروضة عليهم. لهم، وهذه المعاملة طبيعية بالنسبة لأمثالي، لم أشعر منهم إلا بالاشمئزاز، فتحدثت مع والدي بشأن ذلك، وكان سيأمرني بترك المدرسة، والحقيقة أنني شعرت بكل الاشمئزاز والغربة منها بل هو أكثر من ذلك رحيما من أن أضع نفسي في العمل طوال اليوم.
- مناقشة رواية "ما ألقاه الطير" بصالون العين الثقافي
- بيت السنارى يقدم ندوة عن الإرث الخالد للمخرج الراحل شادى عبد السلام
- "غرائب الأخبار عن شرق أفريقيا وزنجبار" أحد كتب أدب الرحلات.. اعرف محتواه
كانت المدرسة بمثابة هروب من البؤس الأكبر، إلى البؤس المحتمل. هم أخف وزنا. قسوة الأب، والرحلة التي لا تنتهي بعد القطيع. في الصيف والشتاء، في الربيع والخريف، كانت أيام الإجازة هي الأكثر شاقة وتعبًا التي يمكن أن أراها يوم الخميس على الإطلاق. ثم كان اليوم التالي يوم الجمعة. الجميع يذهب في إجازة يوم الخميس، يرمي حقيبته على الأرض بمرح، لأنه لا يوجد مدرسة غدا، يتسلى ويلعب وينطلق بالنسبة لي كان دوام كامل، عمل دون راحة، أنسى فيه طفولتي وصغري العمر، وفي ذلك أشعر وكأنني امرأة عجوز، عمرها أكثر من مائة عام، تركض. كان أبناؤها وأحفادها عكس أقراني في هذا اليوم، يلعبون ويركلون ويركضون ويضحكون، ولا يتوقفون. لا يعرفون الصمت، فهو حركة أجسادهم المستمرة، اهتزازاتهم في كل لحظة، إلا في الحركة واللعب قبل شيخوختي، امرأة عجوز، أنهكتها سنوات البؤس، تحدد، خلف قطيع من الأغنام. لدي عصا في يدي لسحقهم، أو متمرد آخر. لقد قتلت طفولتي ولم تشاركني آلامي. باستثناء هذه الدمية التي صنعتها لي أمي من بضعة قصاصات من القماش متناثرة هنا وهناك.
صنعته لي أمي وأمضت الليالي عليه، على الجذع والأطراف، ثم القدمين، ثم الرأس. رسمت العيون والأنف والفم بقلم الكحل الذي استعارته من سلفها، وبعد أيام رأيتها أجمل ما قابلته في حياتي، عندما أخبرت أمي قالت: أخاف من الوحدة، لأن والدي وأخي…