ولم تكن مسألة حياة الإنسان تشغله بقدر ما كانت تشغله مسألة «الإكراه والاختيار». فهل هو طريق أم اختيار؟ منذ وجد على هذه الأرض وهو يفكر في هذه المسألة باستمرار، وما يقال عنها لا يحسمها لصالح كتاب حزبي معين “الحوامل والشواميل” حيث يقول:
ما هو الجبر؟ ما هو الاختيار؟
ما هي علاقتهم بالعالم؟ كيف هم مرتبطون ومتحدون؟
أعني، كيف يختلفون في ائتلافهم؟ وذلك لأنك تجدهم يضافون في العالم إلى من جمع بين العقل والحس، كما تجدهم يضافون إلى من انفرد بالعقل دون العقل.
الجواب
قال أبو علي مسكويه رحمه الله:
ينتج الإنسان العديد من الحركات والأفعال التي لا تتوافق مع بعضها البعض.
وذلك لأنه يظهر منه الفعل من حيث أنه جسم طبيعي، فيناسب الجماد.
ويظهر منه عمل آخر، وهو أنه ينمو – مع أنه جسم طبيعي – فيكون الفعل مناسبًا للنبات.
ويظهر منه عمل آخر، وهو أن له نفسا حساسة، ولذلك فإن العمل يناسب الحيوانات.
ويظهر منه فعل آخر وهو أنه متكلم واضح، وهذا الفعل مناسب للملائكة.
ولكل من هذه الأفعال والحركات البشرية أنواع عديدة، ولها أسباب وأسباب، كما يُنظر إليها من زوايا مختلفة، وتتعرض للعديد من العوائق والمعوقات المختلفة: بعضها طبيعي، وبعضها تقليدي، وبعضها قهري.
فالناظر لهذه المسألة لا يفصل بين هذه الأفعال، ولا ينظر إلى جميع جوانبها، يتحير في هذه الجوانب، ويحتار في كيفية النظر إليها، فيتحير، ويشك ويشك. الشكوك كثيرة.
ونشرح هذه الحركات ونميزها، ثم نتحدث عن حقيقة الإكراه والاختيار. وحينئذ يصبح الأمر سهلاً ومفهوماً جداً، ولا يتوقف على مشيئة الله عز وجل، ولذلك أقول:
إن العمل على اختلاف أنواعه واختلاف جوانبه يحتاج إلى أربعة أشياء:
• أحدها : الموضوع الذي يظهر منه .
• الثاني: المادة التي يحدث فيها.
• الثالث: الهدف الذي يُقاد إليه.
• الرابع: الشكل الذي يأتي قبل الموضوع والفعل الذي يريد أن يتخذه في المادة، ولعل الشكل هو الفعل نفسه.
وهذه الأشياء الأربعة ضرورية لوجود الفعل وظهوره، وقد تحتاج إلى الأداة والزمن والتركيب، ولكنها ليست ضرورية لكل فعل.
وبما أن سؤالك يتعلق بعمل الإنسان المتعلق بالاختيار، فيجب أن نذكر ذلك أيضاً.
ثم إن كل واحد من الأشياء الضرورية لوجود الفعل ينقسم إلى قسمين: بعضها قريب، وبعضها بعيد:
أما الوكيل النسبي فهو بمنزلة العامل الذي ينقل آلات البناء ليتولى البيت.
فالفاعل البعيد هو في مقام من يصمم البيت، ويأمر به، ويروج لجميع أدواته.
أما السيتوبلازم القريب فهو في موضع الطوب للجدار والخشب للباب، والسيتوبلازم البعيد في موضع العناصر الأولى.
من حيث الاقتراب من الكمال، فالأمر يشبه العيش في منزل.
والكمال البعيد كالمحافظة على المال ودفع ضرر الحر والبرد ونحو ذلك.
وأما أنواع الأفعال التي ذكرناها فقد اختلفت باختلاف أنواع القوى الفاعلة التي في الإنسان. وذلك لأن كل قوة من القوى الشهوانية، والقوى الغاضبة، والقوى الناطقة لها فعل محدد لا ينشأ إلا منها.
أما الأسباب والدوافع، فمنها الأشواق والميول، ومنها الأفكار والرؤى، وهذه يمكن أن تكون مركبة.
أما العوائق التي ذكرناها، فبعضها تقليدي، وبعضها قهري، وبعضها طبيعي.
فالاتفاق مثل من خرج لزيارة صديقه فلقيه عدو لم يقصده، فيمنعه من إتمام عمله، وكمن قام إلى عمل ما في تعثر أو يقع في حفرة.
فالقهر كمن قيد اللصوص يديه ليمنعوه من ظلمهم، أو كمن حبسه الحاكم ليمنعه من الطلب والفرار.
فالطبيعية مثل الشلل والسكتة الدماغية ونحو ذلك.
•••
- الولايات المتحدة تعيد تابوتا مصريا قديما إلى المتحف السويدى
- الانتهاء من المرحلة الخامسة لمشروع حكاية شارع بمصر الجديدة ومدينة نصر
- وزير الثقافة يكرم الفائزين بجوائز مسابقة القانون والمواطنة وحقوق الإنسان
وهنا جانب آخر من الفعل يجب أن نتذكره، وهو أننا لا نستطيع أن ننظر إلى الفعل من حيث ذاته، بل من حيث إضافة شيء آخر. فمثلاً يمكن أن ننظر إلى فعل زيد من حيث طاعة غيره أو معصيته، ومن حيث محبة عمرو له وبغض خالد له، ومن حيث ما يضر بكر وينفع عبد الله، فهذا الاعتبار ليس في الفعل لا نفسه، بل بالإضافة إليه.
ولما كنا قد نظرنا إلى الفعل وأنواعه واتجاهاته، وحاجته إلى ظهوره ووجوده لتوافر الشروط التي عددناها؛ ونحن ننظر إلى ما هو الاختيار، فنقول:
- الانتهاء من المرحلة الخامسة لمشروع حكاية شارع بمصر الجديدة ومدينة نصر
- وزير الثقافة يكرم الفائزين بجوائز مسابقة القانون والمواطنة وحقوق الإنسان
- المواقف الحياتية والإنسانية فى المجموعة القصصية "نسمات الخريف"
فالاختيار في اللغة مشتق من الخير، وهو اختراع له، وإذا قيل: رجل اختار شيئا فكأنما خلق الخير، أي فعل ما صالح له. : إما على الحق أو على حسب ما ظن، وإذا كان في الحقيقة لم يكن خيراً له، فإن فعل الإنسان يتعلق به على هذا الوجه، وهو ما جاء من ظنه ورأيه النهائي فيه لذلك أن ما هو خير له سيحدث له، وهو كذلك ومعلوم أن الإنسان لا يفكر ولا يبدي رأيه في واجب ولا في مستحيل، بل يفكر ويعطي رأيه في أمر ممكن. ومعنى قولنا “ممكن” هو الشيء غير المستحيل، وإذا افترض وجوده، فلا تترتب عليه استحالة.
- المواقف الحياتية والإنسانية فى المجموعة القصصية "نسمات الخريف"
- مسلسل الحشاشين.. "رسائل إخوان الصفا" حكاية فرضها حسن الصباح على أتباعه
ولما كان هذا الجانب من الفعل متعلقا بالاختيار، وهو الذي يتعلق بفعل الإنسان، ووجود الفعل الكامل يتطلب تلك الشروط التي قدمناها، فانظر إليه – يعني في هذا الجانب – يفضح فيخطئ المرء فيقع في تلك الجوانب الأخرى التي لا تتعلق بالإنسان ولا بمبدأها بالنسبة له، وربما نظر إلى جانب من جوانب العمل وأهمل النظر إلى الجوانب الأخرى، فيكون حكمه على. ويكون عمل الإنسان على هذا الجانب، وهو بمنزلة من ينظر إلى العمل من جانب واحد. السيتوبلازم الذي ينفرد به والذي هو ضروري له في وجوده، ويتخلى عن الجوانب الأخرى الضرورية أيضًا في وجوده، كالمؤلف المؤلف؛ لأنه إذا نظر إلى فعل الكاتب من هذا المنطلق أعني عدم قدرة الإنسان على العمل به، فيرى أنه لا يستطيع أن يكتب من هذا المنظار ويحرم عليه ذلك، وهذا الجانب لا يتعلق به من حيث أنه كاتب ويختار الكتابة، وكذلك عدم وجود قلم وقلم صحيح أو أحد تلك الأشياء المشروطة بوجود كل عمل إنساني، فإن هذا الراصد يأخذ بعين الاعتبار مبادرة ل. الحكم على الشخص بالإكراه ومنعه من الاختيار.
وهذا أيضًا هو حال من يرى أفعاله من وجهة نظر اختياره. فإذا نظر إلى هذا الجانب وترك الجوانب الأخرى الضرورية لوجوده أيضاً؛ كما أنه سيحكم بسرعة على نفسه كممثل ماهر وسيُحرم من إعادته إلى منصبه.
- الولايات المتحدة تعيد تابوتا مصريا قديما إلى المتحف السويدى
- ذاكرة اليوم ..حملة لويس التاسع إلى الشرق وميلاد حسين الجسمى ووفاة محمود تيمور
- وزير الثقافة يكرم الفائزين بجوائز مسابقة القانون والمواطنة وحقوق الإنسان
وهذا هو الحال مع كل ما يتكون من شيء بسيط. فإذا نظر الناظر إلى ذلك التركيب على حسب أحد أجزائه التي يتكون منها وأهمل بقية أجزاءه، تعرض له شك كبير في بقية الأجزاء التي أغفل النظر فيها.
إن الفعل الإنساني، وإن كان اسمه واحداً، يعتمد في وجوده على أشياء كثيرة لا يمكن أن تتم بدونه، فإذا لاحظ الناظر فيه شيئاً واحداً وغفل عن الباقي، نشأ الشك في تلك الأشياء التي أغفلها.
والمذهب الصحيح هو مذهب من نظر إلى أي واحد منهم ونسب الفعل إلى الجميع وأسند إلى كل طرف جزءاً من العمل، وليس عمل الإنسان كله اختياراً أو كلياً وسبق تكليفاً؛ ولهذا قيل: دين الله بين الغلو والتفريط. ومن يؤكد أن وجود الفعل الإنساني يكفي ليكون ممارسه قادراً على قوة الاختيار الفعالة، فإنه يبالغ بإغفال الأساسيات والأسباب المقنعة والمعوقات التي ذكرتها من قبل، ويهمل، وهذا يؤدي إلى له بالوفد.
وكذلك من يدعي أن أفعاله كافية في وجوده لرفع هذه الموانع عنه، ولتحقيق الأشياء الجوهرية، فهو مهمل من حيث إهمال قوة الاختيار الفعالة، وهذا يضطره إلى الإكراه. افعل ذلك.
فإذا كان الأمر كما بيناه واختصرناه، فقد ظهر المذهب الصحيح، وفيه إجابة سؤالك عن الإكراه والاختيار.
ومن المعلوم أن الإنسان إذا امتنع عن فعل شيء لنقص بعض هذه الأشياء الضرورية لظهور فعله، أو بالإضافة إليه، أو إكراهاً أو تقليداً، فإنه يلزم بذلك المعين. فمثلاً إذا امتنع عن فعل شيء لنقص في الجسمانية أو في أحد الضروريات الأربعة التي عجز عنها، وإذا امتنع بسبب مانع قسري أو رضاعي، أصبح من تلك الجهات معذوراً. مقداره، وعلى قدر مقداره.
- 10 روايات صدرت فى 2024.. تستحق القراءة
- وزير الثقافة يكرم الفائزين بجوائز مسابقة القانون والمواطنة وحقوق الإنسان
وأما من كان بحضور القوة الفاعلة من اختياره، وارتفعت عنه تلك العوائق، وزالت عنه جميع عيوبه، فهو لفعل يعتبر على سبيل الإضافة طاعة لمن يجب عليه. يكون طاعة، أو مساعدة لمن تطلب مساعدته، أو غير ذلك من أوجه الإضافات الواجبة، فامتنع عن الفعل، فهو ملوم وغير معذور لأنه قادر ومقتدر؛ ونتيجة لذلك يصاب بالندم من نفسه، أو العقاب من الآخرين، أو العار واللوم.
وهذا الجانب من الفعل الإنساني المتعلق بالفكر وإرجاء الرأي، المسمى بالاختيار، هو ثمرة العقل ونتيجةه.
ولولا هذا الجانب، لا فائدة من وجود العقل، بل يصبح وجوده عبثاً وبلا معنى.
نحن على يقين بأن العقل هو أسمى كائن وأشرف ما أنعم الله تعالى على الإنسان، كما أننا على يقين بأن أخس الكائنات هو ما لا ثمرة له ولا منفعة في وجوده، في نفس الموضع. كاللغو والسخافة، وعلى هذا القول فإن أعلى الكائنات هو أحقر الكائنات، وهذا خلاف لا يمكن أن يكون.