يبدأ وائل السمري روايته لعنة الخواجة بمونولوج داخلي طويل يكشف تحولات ناصر البطل التراجيدي في الأزمات والذي تتعرض حياته لعدد من المنحنيات النفسية والانقسامات الشخصية على أكثر من صعيد هي . في أكثر من علاقة.
واللافت أن السمري، وهو الذي صاغ مونولوجه الداخلي على مدى خمس صفحات ونصف في بداية الرواية، استطاع أن يدخل القارئ بسرعة إلى أجواء الأزمة برشاقة كبيرة، ليصل به إلى ذروة التوتر. ويلخص حياة ناصر، مسلطاً الضوء على علاقته بحبيبته وزوجته علياء، وعلاقته بشركات الورق العامة والخاصة، ومحاولته بشجاعة كبيرة أن يواجه الفساد بإحساس الندم، بدافع من خلال الصراعات المتعددة بين الواجب والعاطفة.
إن مفارقة الأناقة والتكثيف تتعمق إذا وضعنا تلك الافتتاحية المختصرة أمام مجلد الرواية المكون من 660 صفحة. وهو ما يؤكد أن السمري لم يبالغ في «العمق» ولم يقارنه بـ«الطول». كان السرد عبر صفحات الرواية كثيفا ومفصلا في نفس الوقت، وإذا كان “الورق” هو سر أزمة البطل عبد الناصر، فإن “الورق” أيضا سيكون سر خلاصه الفردي وسر تميزه. في نفس الوقت، بعد أن مر بالعديد من التجارب المؤلمة والانقسامات المريرة التي أدت إلى انفصاله عن عالمه الحقيقي وانفصاله عن… بيئته العائلية (زوجته علياء وابنتيه فجر وضحى مرة). يعثر ناصر على أوراق دانيال دانينوس، اليوناني المصري، البطل الثاني للرواية ورفيقه.. تبدأ فكرة بناء السد العالي مع أزمة ناصر مع زوجته. لأنه اشترى أوراق دانينو بألفي دولار كانت مخصصة لنفقة ابنتيه؛ فتخرج زوجته من المنزل، مصحوبة بالفجر والضحى، والأزمات العميقة تكشف وجهها المتألم، ويصبح “ناصر” بلا “ناصر”، مما يدفعنا إلى تأمل الاسم الذي يستهزئ بالاسم، على غرار روايات نجيب. محفوظ، حيث صابر في رواية “الطريق” لم يكن صبوراً، وسعيد مهران ليس في “اللص والكلاب” فهو ليس سعيداً ولا ماهراً.
لعنة الخواجة” src=”https://img.youm7.com/ArticleImgs/2024/10/24/202707-The-Curse-of-the-Khawaja.jpg” style=”width: 550px; height: 825px;” title=”لعنة الخواجة”>
لعنة الخواجة
إذن يحتاج ناصر الآن إلى من يسانده بعد أن تركته زوجته علياء، فيصبح خلاصه الفردي في عالم الأوراق، حيث يرحل إلى دانييل دانينوس الذي يمارس الحضور الجسدي، عابرًا زمنه التاريخي – منذ بداية القرن العشرين حتى السبعينيات – إلى الوقت الحاضر هنا والآن – لينهض دانينوس بوظيفة روائية مزدوجة: الأولى تتجلى في كونه راويًا يروي قصة حياته، وصراعاته، يخبر وتجاربه التفصيلية في ضمير المتكلم لناصر/المحكي له. والثاني يتجلى في صعوده من وجوده التاريخي الأكيد إلى مشارف رمز يستوعب عدداً كبيراً من المعاني والقيم العليا التي نحتاجها جميعاً في لحظتنا الراهنة، وليس فقط “ناصر” الأزمة المهزومة. بطل الرواية هذه هي قيم الصبر والمثابرة والإصرار على الهدف واستمرار الاتجاه والإيمان بالحلم مهما كبرت ومهما كبر اليأس واشتدت، يكشف بذلك الفعل مفارقة أخرى على مستوى التسمية، ليتحول دانينوس إلى ناصر ناصر. ومع أن أحد أهداف السمري، بل واهتمامه الإبداعي الرئيسي -في رأيي الشخصي- في روايته العميقة والمتقنة، هو دعم دانينوس وفي الوقت نفسه الفوز بجهوده الضائعة،
لذلك يتمرد دانينوس على مؤلفه ويصبح الداعم والداعم لكل أصحاب الطموح والأحلام الكبيرة والرغبة في إصلاح العالم، الذين أصبحوا محبطين في مناخ اجتماعي خانق لا يحتفل بالفريد ولا يهتم بذوي النزعة. الإخلاص وأصحاب الموهبة هذه هي رسالة السمري، في اعتقادي، من خلال فنه الروائي، حيث يواجه سؤال «المعرفة» وسؤال «القيمة» بسؤال «الفن» يعتنق ويمارس السمري ألعابه السردية المتنوعة، ووجود مونتاج متوازي ومتداخل في الوقت نفسه؛ ليكشف لنا من خلال أعماله الفنية ليس فقط عن دانيال دانينوس وتاريخه الغني والمثير للاهتمام، بل أيضًا عن التحولات الحاسمة في تاريخ مصر الحديث، وتأمل عميق، وتجارب شخصية وتجارب عامة في نفس الوقت، ووثائق تاريخية مهمة.
- ميلانيا ترامب.. ما جاء في الكتاب الأكثر مبيعا بأمريكا
- معرض عن تأثر الفنانين بمصر القديمة فى متحف متروبوليتان الأمريكى
كل ذلك في إطار يمزج السرد بالتاريخي، والمتخيل بالمعرفي، والنفسي بالسياسي، وأزمة الفرد بأزمة المجتمع والوجود الحضاري الخاص.