الآخرين
ويتبادلون تعازيهم بيني وبينك
وترتعد الرؤى فتسقط على راحتيك
عندما جئت حافي القدمين
قدمي لم يسألك عن المعنى
ولم تشتكي الطرقات إلا أن اللحظة الأولى كانت بعيدة عن العمر الضائع
بهذه السطور الحية يبدأ الشاعر حسين القباهي عنوان ديوانه “الآخر” وهو في الواقع عنوان قصيدة واحدة طويلة تمتد على مائة وثمانين صفحة من القطع المتوسطة لتسجل شواهد إبداعية. أن الشاعر يمر برؤية فردية ممزوجة بلحظة حداثية مشوشة تظهر معارضتها بوضوح من خلال صياغة خاصة تحتفي بالمكان /التاريخ/المولد/النشأة في صعيد مصر مع تراثه الفرعوني متجذر في أعماق التاريخ. تحيط بها أسوار المعابد وتمتد على طول نهر النيل وهبته الأبدية المتدفقة، وتؤكد في الوقت نفسه انتمائها الأصيل للحضارة العربية الإسلامية من خلال قاموس يستدعي أفق الصيغ القرآنية ليظهر حضارتها. عطاء غزير وواسع تستلهمه أنفاس الصوفية الدافئة وتجلياتها الفعالة الممزوجة بخصوصية المكان/ الأقصر، لتجاوز أزمات التحول الحضاري العالمي المهزوم محاصراً في عالم يقول الشاعر عن أعضائه:
“وحتى يتمكنوا من الانفصال
لقد تمسكوا
مع أعمدة أسمنتية وفولاذية في المدن المسورة
بأفكار مشوشة
وقليل من الجنون
وإذا كان عنوان المجلد/القصيدة مشبعاً بإحساس لافت للاغتراب الوجودي، يذكر في عمقه مقولة الشاعر الشهيرة لجان بول سارتر: “الجحيم هو الآخر”، حيث كل تجمع بشري ينطوي على صراع، ومن خلال افتتاحيتها مما يدل على غربة الشاعر منذ ولادته وندمه عند وفاته. الشاعر القادر على احتياطي المعرفة. صياغة خصوصية المكان/التاريخ/الدين/العادات/التقاليد رغم المعاناة الاجتماعية وقسوة المظاهر الطبيعية:
“لم يكن الأمر يتعلق بالدوران والمسارات
لا شكاوى أو ألم
لذلك جئنا
املأ جيبها السري
مع الحلويات والحلويات ونعناع الحب والهدوء
ومن بين مسارات روحها أعيادها
ومواسم شح الأمطار والظلال
سوف تقع العطلات فجأة
علمت نفسها الصبر
أنت تطلب المساعدة مما تعلمته من الماضي
الأوقات والصلاة
ولذلك فإن الشاعر الملتف في طقوس المجتمع والمتشابك مع تقاليده العريقة وحضارته الراسخة وأحجاره المنقوشة الخالدة، يسمح له بإعادة ميزان الصراع إلى التوازن، وهو يأتي من القرى التي تحتفل بعظمة الموت لتمارس خلق متعة الحياة !!
“تكريما لوجه الموت
القرى تخرج من مخابئها
إنها توزع الحلوى في الشارع.”
وفي هذا الإطار الجماعي المتناغم -رغم قسوة المنفى بمظاهره المكانية والنفسية والثقافية المتعددة- يمكن للشاعر أن يكون: “مثوى الضائعين”.
يمكن للمارة والحشود
وبعض المهووسين
وجمهور المنسيين
إذا اختلطت المدن المتفرقة
الأبقار الساخطة
وأسلم في دينونة الأيام
روعة المنفى
“للبحث عن مأوى”
ومن يتجه إلى قراءة الديوان/القصيدة يجد أيضاً أنماطاً من الأداء المجازي والأسلوبي تعتمد على علوم البلاغة والمعاني، إذ يلفت النظر إلى جماليات اللغة العربية وعراقة بلاغتها، وهو قادر على التجديد. وحضور ثابت في لحظتنا المعاصرة الحالية، حيث فعالية الاستعارة التي كان أرسطو يقول عنها “الوجه هو من “الاستعارة المضيئة””
وبالإضافة إلى جماليات التقديم والتأخير، والانفصال والاتصال، التي يجيد الشاعر العزف على الأوتار فيها، فإنها تخلق ما يسميه النحويون الآن: “التماسك النصي”، الذي يتجلى في نفس سردي رائع يرتقي إلى النمو، مشحونة بعرض رمزي شفاف يشير إلى حقائق سياسية وتحولات اجتماعية وأزمات تهدد المصير، ويكشف عن رؤية متماسكة تنقل معانيها للمثقفين المتميزين. القارئ الذي يمكنه أن يبدأ في فهم سبب تحول الشاعر إلى الداخل ليكشف. الفراغ الخارجي وإلا أصبح كالحشود المختفية التي وصفها الشاعر بقوله:
“لم يفهموا
كيف استندت
أو انتبهت لنفسي
لقد خلقت لي الممرات والطرق
وليلة نعسانة
وللسفر
وظل جيش عظيم يحرسني
والمحتالون يتجولون حولي
وأوضح العشاق
لقد كانت أرضًا يكتنفها الصمت
ويهدف إلى العرافين أسرار الوصول.”